فيروز.. صوت لبنان الخالد
بقلم : د. وفاء مرزوق / الجزائر
-×-×-×-×-
لصوت فيروز رقة وقوة، حنين ونقاء وعزة وكبرياء، مشغول تماما كسحر طلتها، بالذهب مشغول وبشيء من ضوء القمر وأسراره المبهرة, كأغانيها يشبهها، ابن البحر والجبل والسهل والطبيعة البكر، مصقول مع الكلمات التي تؤديها كأنه خلق لها، مطبوع برائحة الأرض والمطر والشجر وعطر الزهر والورد والأوف والميجنا والعتابا، تهدهده الألحان فيأتي صافيا وعميقا من قلب لبنان الأبي ليفرد أجنحته ويجوب العالم..أوف يابا .. يا طير يا طاير على اطراف الدني، وهاهي فيروز تحلق بنا في سموات الدهشة عابرة بنا القارات السبع عبر مشهدية عالية ترسمها في مدى صوتها والكلمات التي اختارتها لتفتح لنا أبواب الحلم الجميل أبواب الماضي البعيد والحاضر العصي والمستقبل المرغوب وكذلك أبواب الغائب في انتظار أن يحضر.. يحضر كل ذلك مع صوتها تحضر الفصول والتاريخ والأمكنة، ثم وبرفق ولين تعيدنا بعد هنيهة من الزمن وفي هدوء تام و حنين أخاذ للوطن وربوعه الطيبة.. احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي يا نسيم اللي مارق عالشجر مقابيلي، لنخال أنفسنا أبناء لبنان الواحد ونرحل معها إلى طريق الضيعة القديم والساحة الرمادية وطلة القمر على الوادي وأبواب نيسان وهي تفتح على جمال بلادها الساحر من شماله إلى جنوبه، ببحره وجبله وسمائه وغيومه وأشجاره وطقسه الآسر.
فيروز ليست أغنية فحسب ولا مجرد كلمات وصوت ولحن يقطر عذوبة، بل هي قصة ضمنية عشناها بضمائرنا الحية التواقة للجمال العاشقة للحرية، قصة وطن وقضية وحكايات وذكريات مزروعة بالفي، مع أهل ميس الريم وست الدار وأهلها و بنات وصبيان الحي وبياع الخواتم، ومختار المخاتيرـ ومرسال المراسيل، ودبكة لبنان، وخالي يا خالي.. وغيرها من الأغاني التي علمتنا بها كما تعلمت هي أن الحب رسالة مقدسة، حب الوطن والناس والحياة على بساطتها، هكذا إذا تقول فيروز وتسترسل، علموني حبك علموني على حبك فتحولي عيوني.. ومن غير الوطن يستحق كل ذلك الحب الكبير والكبير جدا.
سحر الكلمات بين المحكي والفصحى
سنرجع يوما إلى حينا ونغرق في دافئات المنى
سنرجع مهما يمر الزمان وتنأى المسافات ما بيننا،
وحدها فيروز استطاعت أن تمتلك ناصية اللغة وناصية القلب، فكما غنت باللهجة اللبنانية المحببة والجميلة غنت أيضا باللغة الفصحى لكبار الشعراء وبشكل جميل وبديع، فكان صوتها بارعا في الحالتين، وفي شتى الطبوع التي أدتها، كلماتها بالمحكية، قصائد من اللوز والسكر، وأنت تسمعها تحس وكأنك تتذوقها، وقلبك يتأرجح ويخفق معها، يحدث ذلك مثلا مع كلمات الشاعر الكبير سعيد عقل “بحبك ما بعرف هن قالولي من يومها صار القمر أكبر عتلالنا وصارت الزغلولي تاكل عإيدي اللوز والسكر”، ولا ضير في أن تشعر معها بهبات النسيم وهو يداعب كيانك وبخضرة المكان والطريق المحفوف بالأشجار وجمال المساء وهو يدنو من الجسر واستدارة القمر عند سدول الليل وزرقة البحر عند إشراقة الصباح ونسائمه الهفهافة ، يحدث كل ذلك وكأنها تشيح بصوتها عن عالم آخر من المعنى والجمال الخفي، فما أجمل ذلك الصوت الشجي وما أجمل تلك المحكيات المنسابة كشلال من النجوم واللآلىء البراقة، أكاد أسمعها الآن وهي تقول “كنا نتلاقى من عشية ونقعد على الجسر العتيق تنزل على السهل الضبابه تمحي المدى وتمحي الطريق” أو “نحن والقمر جيران بيته خلف تلالنا يطلع من قبالنا” أو “أنا عندي حنين ما بعرف لمين ليلي بيخطفني من بين السهرانين” أو “ورقه الأصفر شهر أيلول تحت الشبابيك ذكرني وورقه دهب مشغول ذكرني فيك” أو”شايف البحر شو كبير كبر البحر بحبك شايف السما شو بعيدة بعد السما بحبك” أو “يا أنا يا أنا، أنا وياك صرنا القصص الغريبة” والأروع من كل ذلك قصيدة الشاعر الكبير طلال حيدر “وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان وحدن بيقطفوا أوراق الزمان” .. وغيرها من الأغاني التي تخطف القلب والوجدان وتسمو بالروح إلى أعلى مراتب الشوق والحنين إلى الحب في قدسيته وفي عذريته ونقائه وإلى الحلم في أرقى تجلياته.
كانت فيروز أيضا صانعة للأمل وللبهجة في أغانيها المليئة بضجة الحياة والتي أدتها في شكل شبه جماعي، في مثل، البوسطة وسهر الليالي و أهل الدار وخبطة قدمكن، ويا دارة دوري فينا.. وفي الفرح كما في الحزن والشجن أبدعت فيروز في مداعبتها شغاف القلب، فغنت الله معك يا هوانا و ليالي الشمال الحزينة، في قهوة عالمفرق، بكتب اسمك يا حبيبي عالحور العتيق، حبيتك بالصيف حبيتك بالشتا، قديش كان في ناس، يا ريت منن، تعا ولا تجي وغيرها الكثير، فكانت رائعة في حزنها كما في صمتها وهدوئها وفي ولعها الزائد بانتقاء الكلمات الراقية والمعبرة والشاعريةـ ولا غرابة في أن تفاجئنا بصرعات فيروزية مواكبة للعصر بمش فارقة معاي وضاق خلقي يا صبي، اشتقتلك، مش كاين هيك تكون، عندي ثقة فيك وكيفك انت كما فعلت قبلها في عودك رنان وشالك رفرف وغيرها من الأغاني ذات الريتم السريع والمواضيع الجديدة فهي المبدعة والمجددة والقابضة على مجد الكلمة والقصيدة والأغنية في ماضيها الأصيل وحاضرها المعاصر.
فيروز في عيون الشعر والشعراء
لفيروز لدى شعراء الحداثة مرتبة وثيرة فهي قصة بحد ذاتها في حياة كل شاعر وملهمة أيضا، قال عنها شاعر الشعراء محمود درويش: ” فيروز هي الأغنية التي تنسى دائما أن تكبر/ هي التي تجعل الصحراء أصغر/ وتجعل القمر أكبر”، أما الشاعر الكبير نزار قباني فاعتبرها بمثابة رسالة حب من كوكب آخر مسترسلا في حديثه عنها “لقد غرتنا فيروز بالنشوة والوجود، كل الأسماء والتعابير تبقى عاجزة عن وصفها لأنها وحدها مصدر الطيبة فينا”. وبالنسبة للشاعر طلال حيدر فهو يرى أن فيروز حبست نفسها والناس حبسوها في القداسة في الصوت الذي رسم خارطة لبنان ونسوا من هي ناطورة المفاتيح وعطر الليل، في إشارة واضحة إليها. يقول الشاعر أنسي الحاج: “ليتني أستطيع أن ألمس صوتها، أن أحاصره وألتقطه كعصفور، كأيقونه، أن أكتنفه وأشربه وأكونه” أما الشاعر شوقي بزيع فله قصيدة كاملة عن فيروز وصوتها الساحر بعنوان ” صوتها ضمة برق فوق نيسان” يقول في مطلعها:” ليس صوتاً/ بل نهارٌ مشمسٌ بين شتاءين/ وأنصاف بحيرات/ وشلال خواتم/ هو ما يجعلنا نبكي على ما لم يضِع بعد/ وما يجعل من قطعة موسيقى/ أكاليل زهور/ وشموعاً ومآتم”، ثم ينهي قصيدته متأثرا : ” أين يمضي الصوت فينا؟/ هل يرينا الروح في منبعها الأول/ أم يصحبنا نحو عراء الموت كيما نتلاشى فيه/ هل نحن مرايا الصوت أم أصداؤه المرتجفة/ لم نعد من صوتها كي نصفه”.
وهكذا أيضا أخذت فيروز من عيون الشعر العربي، فغنت القديم منه والحديث، كما أدت الموشحات الأندلسية، وترانيم الميلاد، وأغاني الأطفال، وتغنت بمعظم الدول العربية، غنت من أشعار سعيد عقل للقدس وفلسطين ومكة وبيروت والشام والأردن كما غنت للبنان وبغداد ومصر وسوريا وتونس والكويت والإمارات وللمدن الفلسطينية وللجزائر ولجميلة الجزائر من أشعار الرحابنة ولبيروت مرة أخرى من أشعار جوزيف حرب وبشارة الخوري، وقد أبدعت في غناء القصيد بصوتها الأخاذ والمميز،من ذلك عصفورة الشجن لعلي بدر الدين وأهواك بلا أمل لزكي ناصيف، يا حبيبي كلما هب الهوى ومر بي للأخوين رحباني، سيد الهوى قمري و يا عاقد الحاجبين لبشارة الخوري، وغنت أيضا أعطني الناي وغني وسكن الليل لجبران خليل جبران لا تسألوني ما اسمه حبيبي لنزار قباني، لاعب الريشة وأمي يا ملاكي لسعيد عقل يا جارة الوادي لأمير الشعراء أحمد شوقي.
فيروز أيقونة الشرق، صوت لبنان الخالد القادم من أعماق البلدة القديمة صوت الأصالة والكرامة، تصدح مع البحر ومع الطير، تفتح أبواب المجد والوصل والحلم، تترنح مع القلب، تصنع توليفتها الخاصة، تحيلنا إلى ذواتنا، تعيدنا إلى الأرض والطبيعة، تذكرنا بالمعاني المنسية، تحرس أمنياتنا بكثير من العذوبة والرقي والجمال..
فيروز شاعرة الغناء ومطربة الشعراء، قمر يستريح على جبل، وجبل يتكىء على نهر جار، ونهر يسقي الزرع والأشجار، وشجر يظل الحب، وحب ينير الأمل، وأمل يصنع الحلم، وحلم يأسرنا جميعا بسحره ورونقه وجماله..
لفيروز كل الحب وكل ورود العالم.