التحشيد الثقافي
ثمة تحشيد ثقافي واضح للغاية في “جسور متأرجحة: ناجي طاهر. مشاهدات إنطباعية في الفلسفة والحياة والتغيير. فواصل للنشر. بيروت2022. 465 ص. تقريبا”. كتاب بل كتابات محتشدة بالحياة والفكر والفلسفة والثقافة، والصراع. يخرج الكاتب من شرنقة الدراما اليومية: الدراما التي صنعتها توالي الأحداث. وتوالي الصراعات، في القرى. وفي المدن. وفي الوطن بعامة. وكذلك في الثقافة العربية والعالمية.
شاهدا على المكان وعلى الزمان، كان ناجي طاهر في كتابه “جسور متأرجحة”، مشروع توقيعات يومية، شديدة الخصوصية. شديدة العمومية. تصنع الدراما الإنسانية الدائمة، بلا تحذير وبلا تأخير. لأنها تأتي مجبولة بالعرق. وبشمس الجبين، التي تكشف بدن الإنسان المدمى، على مساحة الوطن الحزين.
” الدعوة إلى عدم التفكر والتفكير، هي بلا منازع سمة هذا العصر. لا حاجة ولا داعي بك للفهم. لإدراك أي شيء. فكل شيء مقيد ومحسوب! ليس عليك أن تفكر. فإن الآخرين جميعا، قد فكروا عنك وقرروا أنك لا تصلح إلا للمضغ والتكرير والتكرار الممل. والإستهلاك الأجوف. وإنه لا جنحة عليك ولا حرج. ولا ضرر ولا ضرار، إن فعلت أي شيء خارج دائرة التفكير الحر، ولكن بشرط أن تظل إبن المملكة. وعضوا إلى جماعة الهيكل. وهكذا. لك أن تعمل بكد. وأن تشقى وتحرد وأن تموت بغيظك. ولكن المكتوم في نفسك.”
وفي تصدير كتابه، يستشهد المؤلف على هذا المعنى، بما أتى به لنيتشه:
” … لم يعد للتجريد أي قيمة لا في السماء ولا في الأرض. تفرض الإشكالات العظيمة كلها حبا عظيما، والأذهان القوية، الواضحة والواثقة القوية الإرتكاز قادرة على الحب. ثمة فرق هائل بين مفكر ينخرط بشخصيته في إشكالاته لدرجة أنه يجعل منها قدره، ألمه وأعظم سعادة لديه، وبين من يبقى “لاشخصي”. من لا يعرفها ولا يتلمسها ولا يدركها إلا بأطراف أصابعه وبحشرية باردة. لن يتوصل هذا الأخير إلى شيء يمكننا أن نتكهن بذلك بكل ثقة”.
في مقدمة الكتاب، يوجه المؤلف كلمة شكر وتقدير لسحر مندور ولليلى الداهوك. وكذلك لناشر الكتاب الشاعر نعيم تلحوق، صاحب فواصل للنشر. وكذلك للفنان التشكيلي برناردرنو، الذي قدم له لوحة الغلاف.
إلى المقدمة إذا، تنضاف الأجزاء الخمسة المكونة للكتاب: ١-فلسفيات. ٢- شؤون وشجون لبنانية. ٣- يساريات. ٤- مشاهدات. ٥- مقالات منشورة. وهذة الأجزاء على سعتها، إنما تكون مشروع ناجي طاهر الثقافي. وهو إستلهام، لما فعلته الحرب والمدينة والثقافة به. فكان هذا العمل الواسع والشمولي، ثمرة للنقاشات والحوارات الفكرية والفلسفية، التي غالبا ما يطرحها على نفسه، وعلى الآخرين، بلون من ألوان التشاركية، التي لها طعم الديمقراطية والعدالة الإجتماعية والتفكير الحر.
” إعرف نفسك! قالها مرة سقراط. ويدعي أغلبنا ويظن، انه لا يعرف نفسه وحسب، وإنما تتسع معرفته أكثر من حدود نفسه، وتتعداها إلى ما بعد حدود الآخرين… وعليه تبدو معرفة أي شيء على حقيقته مستحيلة. ويبدو أننا منذ أن حسم ذلك العجوز المستطير، في تمرد معرفتنا، لا نزال نقبع في حدود الإحتمال والرجحان، بإزاء المعارف المفارقة التي لا تحتاج إلى أي برهان أو إثبات. فهي تقوم هكذا بمجرد أن يمررها ويقرها اليقين المستريح!”.
تعكس العتبة النصية، في “المقدمة”، وفي “إعرف نفسك”، توسل الروح العظيمة، التي يأمل الكاتب، بقصد أو بلا قصد، أن تساعد أبناء الشعب على إستعادة إنسانيته الجريحة أو القتيلة، لا فرق. مادام يحملها نضجا ووعيا بحجم المسؤولية، وبحجم أبعادها الحياتية المعقدة. تلك التي تتطلب في كل وقت التضحية والتضافر، والتعالي على الأحداث والصراعات من منظور الشخصنة المبكرة لرؤية الأحداث، لدى الكاتب.
” حول الشعب العظيم والثورة المستحيلة. على بعد أمتار من خيم الثورة، تدور حياة شبه طبيعية، فيما يتذمر الناس من كل شيء وخاصة هذة “الثورة”. التي يجمع غالبية ساحقة من الناس، كل الناس، على أن الأعمال توقفت، والبنوك جفت. والإموال تبخرت. والأرض إنشقت وبلعتها. كل ذلك منذ اللحظة الأولى التي إنتفض بها الناس على الزيادة، على ” الواتس آب”.
كأن هذا الكتاب، بعناصره المختلفة والمؤتلفة، يشبه إلى حد بعيد، عملا روائيا شديد التعقيد. غير أن الكاتب، لم يرد أن يذهب به هذا المذهب، فأحاله إلى الكتابة اليومية المباشرة. لأن الصحافة عنده أولا. وأما الرواية، فهي من صنع الخيال الثانوي، الذي لم يتفرغ له من بعد.
” لست أدري على وجه الدقة ماذا تراه كان سيفعل أو يقول آنشتاين لو أعاد به الزمن إلى أيامنا هذة. هل تراه كان سيبدل في مضامين نظريته، على الرغم من تثبت الفيزياء الحديثة من كثير من منطلقاتها.”
يستحضر الكاتب ذاكرته، في جميع المراحل التي عبرت به، وعبر بها إلى الحياة. يردم الفجوات التي تصادفه كل يوم ، في طريقه. يلتقط الأفكار طازجة وهي في طريقها إليه. يحملها، تماما كما يحمل البناء حجارته الغشيمة، ويصنع منها حصنا. قلعة. دارة. أو رملة منقطعة. أليست الذكريات اليومية، جزءا حميما من الذاكرة. يفعلها الكاتب في نصوصه، ويجعلها مداميك عمارته النصية. والحكمية. والفلسفية. يجعلها منشوره اليومي، وهو يزحف على أديم الوطن العاري. يخلع أديمه عليه، في برهة العري الجميل.
“… ولا يبدو القلق في كل حال مفتعلا أو مقحما أو دخيلا. لكنه يبدو أكثر إلتصاقا وأصالة. ويبدو أنه من دون القلق لا يمكن فهم وإدراك كثير من الأمور…”.
يكتشف الكاتب عالمه كل يوم. ينغمس فيه، ويبدعه، من خلال دأبه على صياغة ثقافته اليومية. يحاول أن يجددها. يحاول أن لا يضيع جدتها. يحاول أن يكون “إبن بجدتها”، مهما كان قد أضل الطريق.
” لا يخلو أي بلد من تمايز بين شماله وجنوبه وشرقه وغربه. حيث لا يعدم المرء سماع تعليقات هذة المنطقة على الأخرى. لكن الحال بين الشرقيين والغربيين في ألمانيا، تبدو أكثر عمقا من هذة الفروقات “الطبيعية.” خاصة إذا ما أضفنا إليها نصف قرن من الإختلاف في النظم السياسية والإجتماعية والقيم التي كانت سائدة في ظل النظام الإشتراكي هناك. والليبرالي الحر هنا…”
يحشد الكاتب، كما يظهر لنا من خلال مؤلفه: “جسور متأرجحة” ثقافة تاريخية وإنسانية واسعة. وهذا ما جعله يخوض في موضوعات تحتاج إلى حوارات عميقة، في الفلسفة والحياة والمستقبل. فظهر في مؤلفه، ما يؤشر إلى أفكار ومقارنات، كثيرا ما يمكن صبها في سيناريوهات تمثل في الحياة اليومية. وربما تمثل لسيناريوهات الدراسات والكتابات المستقبلية.
” بدا هذا النهار المشمس دافئا، على غير العادة في مثل أوقات كهذة من السنة… وقف شابان وصبية يوزعون جريدة “بيلد” الشهيرة على المارة مجانا، فتلقفوها على عجل. دعاية غريبة لجريدة لا تحتاج إلى دعاية. فهي رخيصة الثمن ( نصف يورو)، وواسعة الإنتشار،( 4 ملايين نسخة يوميا). وهي مشهورة بمواضيعها المختصرة وكثرة صورها الملونة.”
كتابات ناجي طاهر، في “جسور متأرجحة”، إنما هي دعوة، لتدعيم الجسور. أو للنزول عنها. أو لهدمها. فكل من يقرأ هذة الكتابات المتناثرة، إنما يقع أسير أرجوحة الكتابة التي تستقبل النسائم. تستقبل الريح، بشغف العري الإنساني النبيل.
” لقد أصبحت ميالا إلى الإقتناع التام، أن منشأ الأدب والقصص والشعر وكل تنويعاته، وحتى الرسم والنحت، هو عدم رغبة الإنسان في التعبير المباشر عما يختلج في صدره. وربما بلغة العلوم الحديثة. عن مكنونات النفس اللاواقعية الممنوعة أو المرفوضة. وربما يكون عامل الخوف من التصريح برأي، قد يجر على قائله عواقب وخيمة. هكذا أحسب أصل نشأة نظام التورية والإستعارة والإشارة في الأدب، التي يفهمها اللبيب، وقد لا يحاسب عليها الرقيب!”.
إشارة إلى أن ناجي طاهر: مواليد الحولا 1968/ مرجعيون . درس اللغة الألمانية في جامعة بوخوم، غرب ألمانيا، وتابع دراسة الفلسفة والإستشراق في مرحلة الماجستير( بوخوم المانيا). وهو يقيم في ألمانيا منذ العام2001. وقد نشر في “زاوية على حائط برلين”. وفي ملحق شباب السفير. وفي القدس العربي والحياة والبيان وفي موقع (زوايا). فإقتضى التوضيح.