الترويج الخادع
أكثر ما نعاني منه اليوم، هو الترويج الخادع لكل شيء. ما أن ندفع بسلعة ما إلى السوق، حتى نبدأ بحملة ترويج خادعة. نروج لها بالتصفيق الزائف والدعاية الكاذبة. ونقوم بحملة عظيمة لتقديمها لدى الجمهور، على أنها الأفضل، والأجود، والأوفر، والأنجح. ندخل كل أفعل التفضيل على الأفعال، ذات البريق الأخاذ، وذات الجاذبية الجاذبة، وذات الإستحسان، وذات الحلاوة، وذات الجمال. فنضفيها، مع الصفات البراقة، على السلعة الرخيصة والفقيرة والمستهلكة والتالفة والنتنة، والعوراء. نتحدث عنها عن أنها كاملة الأوصاف، ولا تشوبها شائبة. وهي في الواقع، ليست سوى سلعة مستهلكة، قفرها الداني والقاصي. بل أكل الدهر عليها وشرب.
أكثر ما يعاني منه الناس، في هذا العصر، هو المرض العصري. هو الترويج المرضي. نوع شائع، من مرض الأكاذيب المروجة للسلع التالفة. وأعظم هذة الأكاذيب الخادعة، هو القول: إن لبنان مشكلته في إنتخاب هذا الرئيس أو ذاك. مشكلته في هذة الحكومة أو تلك. مشكلته في هذا الوزير أو ذاك. وأنه يجب عليه أن يحسن إنتخاب هذا الزعيم بالذات، لأنه يملك من الصفات، ما يند عن الآخرين.
أكثر ما يعاني منه لبنان، إنما هو تلميع صورة هذة الشخصية أو تلك، بإعتبارها المنقذ، بإعتبارها خشب الخلاص للوطن، وللوطنية، وللمواطنين. ننسى دائما أن الصورة المجملة، لا تصنع الجمال الطبيعي. ولا تصنع الجمال الواقعي. ولا تصنع الجمال الشخصي. وننسى بيت الشاعر أيضا (المتنبي)، الذي يقول فيه:
“لأن حسنك حسن لا تكلفه/ ليست التكحل في العينين كالكحل”.
نريد أن نذهب فورا، إلى التجمل بالجمال الطبيعي، والواقعي، لا إلى التجمل بالجمال الزائف. لأن البلاد لم تعد تتحمل زيف الجمال، ولا تريد أن تتجمل بهذا النوع من الجمال المصنوع، في أي حال من الأحول. لا حقدا منها على هذة الشخصية التافهة المزيفة، وإنما على “إنتاجية الزيف”، الذي لا ينتج إلا الأمراض البلدية والأمراض الوطنية والأمراض المناطقية والأهم منها: الأمراض الجمهورية. بإعتبار أن الشخصيات المستهلكة الزائفة، هي أول من تزحف على بطونها، للوصول إلى المناصب، في برهة الشغور.
فحين يجد اللبنانيون فرصتهم، لتحسين أوضاعهم، يتفاجأون بتلك الشخصية الزائفة المستهلكة، تتصدر الشاشات. تتصدر الإعلام. تتصدر الإجتماعات. وتبذل المال العظيم، لتجميل صورتها الزائفة، تحضيرا منها، لملء مواقع الشغور.
يدخل لبنان اليوم في الزمن الصعب: زمن الشغور الرئاسي وزمن الشغور الوزاري، على حد سواء. في عصر الترويج الخادع، للشخصيات التافهة المستهلكة. فترى وسائل الإعلام تنصب على هاتيك الشخصيات الشهوية المتمولة. تضرب لهم مواعيد لساعات وساعات، على شاشاتها. وهي لا تدري، بأنها تقود أعظم حملة تضليل للرأي العام، وتجعله يرتبك في مواقفه منها، فلا يحسن بعدها إتخاذ القرار. وكان الأجدر بها أن تكون حصيفة ، رزينة، علمية. ووطنية حقا. في تقديم من يستحق التقديم، وفي تجاوز المرتكبين، والمرتبكين، بين ركوب هذة الموجة أو تلك، للصعود على “ضهر الناس”، لسنوات جديدة. وربما تطول وتطول.
بعد مائة عام من التجريب السياسي والوطني والمجتمعي والأهلي، لم يعد اللبنانيون ينطلي عليهم، الترويج الخادع، لأحلامهم ولمستقبلهم ومستقبل أجيالهم، ومستقبل وطنهم. فهؤلاء الزاحفون للتمول والتسلح من الدوائر المشبوهة. ومن السفارات، التي تصطنع لها العمالات، قد أصبحوا مكشوفين أمام الرأي العام، ليس لهم أي تقدير، ولا أدنى توكيل، ولو كانت أموالهم تملأ البنوك. فهذه الأموال بنظرهم، أموال مسروقة من مال الشعب. ولو كانت سفارات لدول عظمى أو عظيمة، تسندهم وتحملهم، فهي سفارات في خدمة بلادها، لا في خدمة بلادنا. ولو كانت لهم شاشات وصحف، ومنابر، فهي بنظر الشعب، من الترويج الخادع و المضلل، للحقيقة. وأما الحقيقة الناصعة، فهي ما يعرفها عنهم الشعب. وهذه الحقيقة، مهما كانت بطيئة، لا بد أن تصل إلى عموم الشعب.
في برهة الشغور، يتجلى لبنان بالأسود والأبيض. تختفي ألوان الصورة، في عيون الشعب، ولا يعود ينظر إليها، إلا عارية. بلا تزييف. بلا تجميل. بلا تبجيل. بلا دبلجة. بلا صناعة في الغرف المظلمة. في غرف السفارات المشبوهة المعتمة. صار اللبنانيون ينظرون في الصورة العميقة، ولا تهمهم ألوان تلك الصورة. حيث تبين فيها السرقات الموصوفة. حيث تلتمس العمالات المسرودة في دروس القراءة. حيث تشف السمسرات، والشطارات. ويشف الغش والخداع. وكذا تاريخ طويل مسرود يشف في تلك الشخصية الزائفة، سليل بيت زائف. سليل عائلة زائفة. أو سليل تاريخ زائف من البطولات التي قضقضت البلاد بقضها وقضيضها. وهي في الوقت عينه، ما تخلت عن أطروحاتها وخطاباتها وبنادقها الزائفة.
الترويج الخادع، محنة اللبنانيين هذة الأيام. وهي أكثر إيلاما لهم مما فعله ويفعله، ويعد بفعله، كل هاتيك الشخصيات التافهة. ترى الإعلام منصبا عليهم. يعظم سخافتهم. يكبر نواقصهم، يعفي عن فجورهم. وينقي صورهم. يجعلهم من العمالقة في كل أمر. في كل شيء. في كل تدبير. في كل عزيمة. وأما حقيقتهم العميقة: فهم أقل من عملاء تافهين، لا يحسنون إلا البيع والشراء، في السوق الرخيصة السوداء، وليس في سوق التجارات الشريفة. لأنهم طوال حياتهم، ما نالوا شرف الوطنية عن إستحقاق. و ما إستدلوا على تاجر شريف، ولا تنكبوا شرف التجارة. ولا إلتمسوا لهم، طوال حياتهم سبلها المشرفة.
في برهة الشغور القاتل، ترى اللبنانيين يذهبون ليلهم ونهارهم. يتبينون الخيط الأبيض من الخيط الأسود. فلا يضللهم الترويج الخادع، لهاتيك الشخصيات التافهة والمستهلكة، كعلكة، في فم صغير، “تفها”في الطريق. لأنه لم يجد منها طعما تحت ضرسه. لم يجد منها طعما في فمه. يلفظها جانبا، ولا يأسف عليها.
الشعب اللبناني، رغم محنته الطويلة، فهو في برهة الشغور، أعظم حيلة، من هؤلاء المزيفين الذين يصطنعون لأنفسهم صورة مجملة، هي في الواقع، نتاج الترويج الخادع الذي أصيبوا به. وهو أعظم محنة لأنه، أصيب بهم من أول القرن. ولا زالوا يربضون على صدرهم، بفضل من صورتهم الزائفة المصنوعة لهم، والتي هي ليست في الواقع، سوى نتاج مريض، و مرضي لهذا الترويج الخادع الذي يصيبنا، في أس مصابنا.