أمواج سمر ( الجزء السابع)
قبلتي الأولى
منذ سبع سنوات، ورقم سبعة يغريني بالكمال، كانت إطلالتي على الحياة، من كوة في جدار مراهقتي. كيف أصف تلك المراهقة؟ لا أجد الكلمات المناسبة.
هذه ال لا تلاحقني أينما كنت.
لا أدري أين قرأت هذه الجملة: يسعفني الدمع ولا تسعفني العبارة
ولكنها حقيقة ذاتي في زمن تاهت فيه الكلمات، واختصرتها اللاءات.
لا أدري..لا أريد.. لا أقدر. والإرادة هي الأساس، واعية كانت أم لا واعية.
وفي إطار اللاوعي، يمكن الحديث عن مراهقة بدأت، في سن السابعة، ولا أظنها انتهت، إلى وقت كتابة هذه السطور.
رقم سبعة يطاردني منذ الولادة.
في اليوم السابع، فقدت والدتي. لم أكن أعرف معنى الحرمان آنذاك. كنت أرى وجها شاحبا، كثير التجاعيد، يراقبني، بعينين ذابلتين، لم تتوقفا عن البكاء. كانت جدتي لأمي. ولكني آنذاك، كنت أظنها أمي.
أما والدي، فقد كان طيفا يعانق سهادي، ليل نهار . كان كأحلام اليقظة يراود مخيلتي الطفولية، بخفر.
كان والدي دائم السفر. كان سندبادي الحضور والغياب، بين صفحات الكتاب والدفتر. أفرغ حزنه الدفين، بعد فراق الخورية، في الكتابة والتأليف. فجر حزنه في قصص من الواقع، ليس فيها الا الدموع، والموت، والصراع مع القدر.
كان والدي كاهنا على مذبح الرب. وكانت حياته جلجلة لا تنتهي بصلب، أو قيامة. كان صلب العزيمة، إلا حين يراني، فينهار، ويهطل المطر. قالت لي جدتي إنني أشبه والدتي، إلى حد بعيد.
لذلك لم يعد يقترب مني الا عندما أزور عالم الأحلام. وحين يوقظني كابوس أو طيف، كنت أرى شبحا يغرق في بحيرة اللؤلؤ المنثور، ويختفي في لحظات.
هي ذكريات طفلة لا أدري مدى مقاربتها الواقع، لأنها أصبحت مرمية في أعماق الذاكرة، يعلوها الغبار، ويوشحها النسيان، بشالات من الحنين والندم الضنين.
وعاد رقم سبعة إلى واجهة الأحداث، في عالمي الصغير. أيعقل أن يكون هذا الرقم شؤما علي، يطاردني كما القدر في المآسي اليونانية؟هكذا قال لي الوعي المفرط في حياتي، قبل أن أفقده إلى الأبد، يوم توفيت أمي الثانية، قبس وجودي الوحيد. فأصبحت وحيدة تماما الا من رفقة الخيالات والهوامات وخفافيش الليل.
لم يكن لي أصدقاء، أو صديقات، بين الزملاء في المدرسة. كنت دائمة الحلم، لا واقع لدي، ولا استقرار. لم تكن خيالاتي ذات وجوه. وكنت أهرب من همسات رفاقي، وتشبيههم إياي بالجنية، ولكن ليس بحضوري. وكنت أؤيد صفتي هذه عندهم باحتجابي الدائم، خلف غلالة الوحدة، والانعزال.
صورة وحيدة كانت تلازم مخيلتي، صورة امرأة نصفها السفلي سمكة. عرفت فيما بعد أنها الحورية.
كانت حوريتي تمسح دموعي، تراقب خطواتي، في دروب الحياة، وعلى محياها ابتسامة حزينة، لا تتبدل.
بعد وفاة جدتي، بدأت أرى أبي من جديد. كان يهتم بي، بكل احتياجاتي المادية، من مأكل أو ملبس. وغير ذلك، لا شيء.
كان ينفرد في غرفته، يقفل على نفسه الباب ، بين كتبه والأوراق . لم يكن يسمح لي أن أزور عالمه السندبادي السري.
وكبرت…
وجاءت السبعة الجديدة، حين بلغت السابعة عشرة. ماذا يخبئ لي القدر هذه المرة؟
رحل السندباد.
أبحر في رحلته السابعة إلى لا عودة . رحل بصمت كأنه راقد . عدت من المدرسة فرأيت الجيران في منزلنا ، والسندباد مسجى على سرير، في غرفة الاستقبال.
لأول مرة رأيت على وجهه ابتسامة . اقتربت منه كأنني في حلم . حدق إلي المحيطون بي وقد أصابهم الذهول . كانوا ينتظرون مني العويل ، أو تمزيق الثياب. أدهشهم هدوئي. ظنوا أنني سأفقد الوعي ، أو أنهار. . حاول المحيطون بي أن يمسكوني كي لا أنهار . أفلت منهم .
كم طالت المسافة بيني وبين البريق الغريب في عينيه . اقتربت منه بصمت . كان أبي ثرثارا هذه المرة . طبعت قبلة اللقاء على جبينه البارد . وكانت قبلتي الأولى.
( سمر ي. الخوري )
منتهى الرّوعة في السرد … حملتني معكِ بتفاصيل لمست جوارِحي ….
أحببتُ كثيراً …