الاعلامية دلال قنديل تقرأ ” رغبة ” كتاب فيليب سولرس الذي ترجمه الكاتب والشاعر عيسى مخلوف
-×-×-×-
بقلم الكاتبة والاعلامية دلال قنديل ياغي :
صدرت مؤخّراً عن دار “الرافدين” الترجمة العربيّة لكتاب “رغبة” للكاتب الفرنسي فيليب سولرس. تحمل الترجمة توقيع الكاتب والشاعر عيسى مخلوف الذي مهّد للكتاب بمقدّمة طرح فيها أطروحات الكتاب الأساسيّة وناقشها بدقّة وموضوعيّة.
صحيح أنّ الكتاب يركّز على أحد الأصوات الأساسيّة في عصر التنوير في أوروبا، الفيلسوف الفرنسي لوي كلود دو سان مارتان، ويلتفت إلى الثورة الفرنسيّة، لكنه يتحدّث عن الحاضر أيضاً، عن عصر “السيلفي”، وعن الحركات النسويّة. يمزج بين الأزمنة ويتطلّع إلى المستقبل. كما يستحضر عدداً من الشعراء والموسيقيين والفنانين عبر العصور. يستشهد المؤلّف بعباراتهم ويتماهى معهم كما يتماهى مع الفيلسوف الذي تمحورت حوله الرواية.
من أمثولات التنوير الكثيرة: “أن نكون كما لو أننا لم نكن”. خلاصة ليست عابرة في الكتاب، كخلاصات أخرى أبرزها تلك التي ختم بها سولرس كتابه: “قد يتوقّف القلب، لكنّ الفكر سوف يحيا”.
إلى ذلك، تبدو ملامح النقد الساخر لمظاهر العصر حاضرة بقوّة، حدّ الإستفزاز، وقد تدفعنا إلى التساؤل: كيف للكاتب أن يمسك مطرقة القضاة في إصدار أحكامه؟ وكيف يستند إلى مفاهيم التنوير وينقضها؟ هل هو يضرب على الوتر، لنفض الغبار عن العقول المحكمة الإنغلاق، المسحورة بعصر التكنولوجيا مسيّرةً بمواقع التواصل الإجتماعي، وبعالم المال التسليعي المتحكّم بالكوكب الهشّ الذي نعيش ارتداداته كلّ يوم قبل أن يهوي؟
يستعيد فيليب سولرس حياة الفيلسوف المجهول لوي كلود دو سان مارتان بصورة جزئية، ويسقطه على واقع يقطع مسافات بين حقبتين. في رحلة عبوري بين الشرق والغرب، من لبنان الى إيطاليا قرب مطار البندقية، وقبل أن أعبر الجسر فوق مياهها المتدفقة، طالعتني في قراءتي الثانية للكتاب هذه العبارات: “هرب الفيلسوف المجهول، بعد أن شارك في الثورة الفرنسية، ليتبعها عبر وسائل سريّة. ثمة من رآه هنا وهناك في أوروبا خصوصاً في إيطاليا… لم يكن الفيلسوف يذهب إلى السينما في الغالب، الأمر الذي يجنّبه الخوض في نقاشات لا جدوى منها. لذلك، كان ينتظر في هدوء الانهيارَ العامّ للكوكب، في شقّة كبيرة في البندقيّة، مختبئة تماماً وراء “سالوتي”، وممتلئة بالكتب والأسطوانات المدمّجة. كانت لديه 220 قناة من قنوات” الكابل” التلفزيونية، وراديو طاقته قوية للغاية. القنوات الأكثر غرابة تبثّ من الشرق الأوسط، مع بثّ يتيح لك أن تفهم كلّ شيء خلال بضع دقائق، وإن كنت لا تتكلم لغة تلك المنطقة من العالم. نفاق الكذب المالي التلفزيوني عالميّ الطابع. لك أن تختار بين مقدِّمات البرامج، وهنّ كثيرات، وابتساماتهنّ غالباً ما تكون متصنّعة”.
“ساعة من الإنتقال من قناة تلفزيونية إلى أخرى وتصبح الكرة الأرضية بين يديك”. كأننا نقوم مع الكاتب بجولة حول مظاهر العالم الراهن. حول كوكب يتعثّر في مشيته. ومن يدري كيف سيكون الإرتطام؟ يجعلنا نمعن في إستطلاع المسارات والاحتمالات.
الرغبة والرغبة المضادة، محرّك جوهري في التفاعل والتغيير ، يمهّد عيسى مخلوف في مقدمته للكتاب بالقول إن الرغبة التي يتحدث عنها”سولرس”، والتي اتخذها عنواناً لروايته، ليست في عنوان “إنسان الرغبة ” للفيلسوف المجهول وحسب، بل تتردّد أصداؤها في مطارح كثيرة أخرى، كأن يلحظها الشاعر لوي أراغون في طريقته الخاصة، في مطلع حياته الأدبية، حين يقول: “وحدها قوة الرغبة لا نهائية، ولا حصر لها، لا قوّة الحبّ “.
النصّ الإشكالي المشبوك برؤية وسيرة فيلسوف تنويري، وصولاً إلى تحديات العصر الراهن، ليس ممسوكاً بقواعد الرواية التي إعتدناها. لا الحبكة مكتملة، ولا السرد يأتي متناسقاً وفق التدرج الحدثي أو الزمني . إنه نص حرّ، على الأغلب أقرب إلى قراءة متعمّقة بسيرة مستعادة لحياة فيلسوف تنويري، تقحم الثورة الفرنسية بأبطالها في مشهديتها الملحمية، وتتجاسر على تظاهرات نسائية، وتضع المرأة من دون مواربة، في موقع الخصم للرجل.
هكذا يورد الكاتب قضايا التحرش الجنسي التي تشغل العالم فضائحها. فيليب سولرس ضاق ذرعاً بهذا الواقع المستجدّ وعبّر عن خوفه من اهتزاز المجتمع الأبوي البطريركي، مبدياً خشيته من ولادة عالم جديد سمّاه “العالم المضاد للرغبة”. بالنسبة إليه، ما يحصل في الواقع هو جزء من تاريخ العلاقة بين المرأة والرجل، وكأن على المرأة أن تتقبل الرجل كيفما كان. في هذا السياق، يأتي موقف سولرس المستفزّ حيال الحركات النسويّة، وهذا ما أثاره عيسى مخلوف في مقدّمته للكتاب أيضاً.
مئة وعشرون صفحة تتماهى بين عصرين، تحضر فيها هوامش المترجم في كلّ صفحة من صفحات الكتاب كمنقذ لاستلهام المغزى. أحداث، كاتدرائيات، قبائل وعادات، تيارات فكرية ومبدعين في مختلف المجالات… غاليري من الأعلام والوجوه التي صنعت التاريخ الفكري والأدبي والفنّي في فرنسا بين دفتَي كتاب.