عروة بن الوِرْد المعاصر و وليمة الياسمين
( قراءة د. ساندي عبد التور لديوان ” غمام الروح وتعاويذ الياسمين ” للشاعر العميد د. محمد توفيق أبو علي )
-×-×-×-×-
من يقرأ نِتاج الشاعر الدكتور محمد توفيق أبو علي سيلحظ بسرعة البرق المساحة التي يحتلها الياسمين في دواوينه بدءاً من ديوانه الأول المعنّون “ضوع الياسمين” وصولاً إلى ديوانه الأخير موضوع دراستنا النقدية “غمام الروح و تعاويذ الياسمين”.
فغالباً ما يقول العنوان لأيّ كتاب زُبدة المضمون حتّى إنّه في كثيرٍ من الأحيان يساهم بشكلٍ كبيرٍ في عملية الفهم قبل الخوض في القراءة النقدية التي تتطلّب جهداً حثيثاً من أجل تسلّق المعنى و بلوغ مقاصد الكاتب و التي قد تفلت منه شخصياً في بعض الأوقات.
يُطلُّ علينا “غمام الروح و تعاويذ الياسمين” كديوانٍ موسوعيٍ ليس من جهة عدد صفحاته – رغم أنّه لا يُستهان به فقد بلغ ما يُقارب المائة و السبعين صفحةً – و لكن لما يتضمنّه من محاور.
يبدأ الشاعر ديوانه بمحطة الشعر التي امتدت على مائة صفحة و التي تخللتها سبعون قصيدة.
ثمّ ينتقل إلى المحطة الثانية التي أسماها الحكايات و التي تضمّنت اثنتي عشرة حكاية امتدت على خمس عشرة صفحة.
أمّا في المحطة الثالثة و الأخيرة، محطة الخواطر، الممتدة على خمس و ستين صفحة يحاول الشاعر من خلال ست و خمسين خاطرة أتت كومضات كما أسماها هو في كثيرٍ من الخواطر أسهبت حيناً و أوجزت أخرى في تسطير جو الديوان ككلّ.
سنبدأ التحليلَ بطريقة معاكسة متوقفين عند الشق الثالث “الخواطر” ثم الشق الثاني “الحكايات” اللذين ما هما إلا انعكاس جليّ لمحتوى القصائد السبعين المرفقين في الشقّ الأول لنرجع بدراستنا إلى ما يقوله شقّ الشعر من خلال القصائد السبعين المرفقة. و كي ننطلق في عملية التمحيص لا بدّ لنا أن نتوقف عند مدلولات العنوان “غمام الروح و تعاويذ الياسمين” و الذي يضع القارئ المتعمّق أمام مقابلة و توازٍ في آن بين غمام الروح و تعاويذ الياسمين.
فعلى الرغم من التشابه بين الياسمين و الغمام عبر اللون الأبيض فالغمام بحسب تفسير ابن كثير هو السحاب الأبيض الذي يغمّ السماء أو يواريها و يسترها أما الياسمين فهو عبارة عن زهرة ناصعة البياض اتُخِذت للزينة إلا أن الغمام يحتاج لتعاويذ الياسمين كي يقتني مدلولاتٍ إيجابيةً. فالغمام الذي لا يُمطِر يبقى دخاناً يخنق الروح و يمنعها من التنفّس و الحياة.
من هنا تأتي تعاويذ الياسمين كبلسمٍ يُنعش الروح الثكلى – روح الشاعر الناطق باسم أبناء ربعه خاصةً و البشرية عامةً – فلا يجدر بنا أن ننسى رمزية الياسمين فقد اختاره أدباؤنا العرب كزهرةٍ تدلّ على الحبّ و قصص العشق و الغرام فكيف لنا أن ننسى ما قال فيه قبّاني في قصيدة حملت اسم هذه الزهرة:” شكراً لطوق الياسمين، و ضحكتِ لي.. و ظننتُ أنّكِ تعرفين معنى سوار الياسمين، يأتي به رجل إليك”.
من هنا فإنّ الشاعر يعلم أنّ بالحبّ وحده يحدث الخلاص: ” لعلّ لهفة صديقٍ في لحظةٍ ما، تعدل وميض شمعة في نهاية المنحدر، تنجي رائيها من الوقوع في الهاوية، و لعلّ مداهنة ما، أو مجاملةً في غير أوانها، قد تكون بمنزلة هبوب ريحٍ، تطفئ في نفقٍ مظلمٍ كل الشموع” (خاطرة، ص. ١٣١). فحين يتركنا كل شيءٍ، يبقى هو معنا: ” فكفانا فيض حقدٍ و أنينْ وحدَه الحب سيبقى نجمة القطب و نبراس اليقين” (فراش هائم، ص. ٤٦). حتّى حين يرحل عنا الأحبّة يبقى فيأتي بكاؤنا عليهم أسطع علامة على انتصار الحب فالدمعة ما هي إلا تلك الغمامة الماطرة التي تسطّر انسانيتنا في زمن القتل و الظلم و انسحاق الأحلام:” حين يفارقنا الأحبّة بلا وداع، لذْ بذاكرتك، و أوصد عليك و عليهم الباب (…) ادعُ حزنك إلى الدخول كي يشاركك وجدك، ثمّ اخرج من ذاكرتك إلى واقعك، و ترفّق بالدموع إذا هطلت، و لا تزجرها، بل زوّدها بما لديك من أخضر الدعاء، حتّى يستقر يقينها” (خاطرة، ص. ١٣٠).
و كأنّ الحكاية الأخيرة من الشقّ الثاني المعنّون حكايات ما هي إلا تأكيد على نعمة العطاء التي نكتسبها بالحبّ الذي يجعلنا نفيض بكاءً و دمعاً فينتصر شغفنا على ظمئنا:” (…) طوبى للحب ميقاتاً للذوبّ و طوبى لمن ينتصر شغفه على ظمئه! ” (حوار بين ضوع ياسمينة عطشى و ديمة، ص. ١١٨) فيستحيل الغمام مطراً يروي الفؤاد المفجوع شغفاً ووجداً.
نضيف إلى كل ذلك أن الشاعر تعتريه كأترابه سحابة أحزانٍ إن لم تمطر بقيت دخاناً على قلبه زاد من اختناقه و ألمه فكيف لا يتألم و يتأوّه في أوجاعه إثر جائحة ألمّت بالمسكونة جمعاء و أم إثر حروبٍ جائرة لا تنتهي شهدتها أرض الوطن بشكلٍ عام و العاصمة بيروت بشكلٍ خاص و كذلك أرض الدول العربية الشقيقة كما ورد في الديوان.
ففي الشقّ الأوّل “شقّ الشعر” الذي امتدّ على غالبية الديوان الساحقة سجّل الشاعر هذا الوجع بأدقّ تفاصيله في قصائد عديدة منها التي تناولت شخصيات معروفة و غير معروفة فجعلها الموت وجوهاً محفورة في ذاكرة التاريخ كإسراء إبراهيم أيوب، الصبية التي خطفها الموت على الاتوستراد حين صدمتها سيارة و قد كانت لا تزال طالبة شابة في كلية الآداب: ” بدمائنا يسرون يا إسراء // يحلو لهم عند الضحى الإسراء// يتسامرون بموتنا و دموعنا// و حكاية السَمَر الأثيم دماء” (إلى إسراء إبراهيم أيوب، ص. ١٢)
و بلال شرارة رئيس الحركة الثقافية و الأمين العام للشؤون الخارجية في مجلس النواب: “صمت الكلام، فيا دموع تكلمي// كوني مداد يراعتي…. كوني فمي// بكماء آهاتي و تشكو حزنها (…)” (إلى الفقيد الكبير الصديق بلال شرارة ص. ١٤)
و مريم فرحات الأم التي هرعت إلى النافذة لتطمئن على أطفالها الخمس الذين كانوا من المفترض أن يأتوا من المدرسة وقت وقوع اشتباكات في المنطقة بين مسلحين فسرقتها المنية:” (…) لحن الأمومة عن كون المُزهِر// و هم الذين ليدفئوا أحقادهم – زرعوا جماراً في مجاري المحاجر (…)” (الشهيدة المسالمة مريم فرحات – التي قتلت ظلماً و هي في بيتها – توصي ابنتها، ص. ١٦)
و كأبيه: ” أبي… و يغيب الظلام بفجري// و فجري تعاويذ وجهكَ تسري// فأنتَ سُرى الوجد… أنت جبينٌ// روى عرقاً كل حرف لشعري (…)” ( أبي، ص. ١٠) و أيضاً كالأسرى الفلسطنيين:” حملوا الإزميل فجراً، ثم راحوا// يسكبون النور في نسغ الدولي// فهمى وجدٌ و راحُ// و انتشت أرضٌ بصحوٍ (…)” (إلى الأسرى الفلسطنيين الإبطال الذين أغرزوا مخزراً في عيني الكيان الصهيوني، ص. ١٥).
فيفهم القارئ المتعمّق من خلال هذه الأبيات أعلاه المنتقاة من أكثر من قصيدة أنّ الشاعر المتألم متمسّك بالماء أحد العناصر الأساسية الأربعة استناداً للفيلسوف و المفكّر الفرنسي غاستون باشلار في كتابه الشهير “L’eau et les rêves” حيث سطّر رمزية الماء. فمن خصائص الماء الأنطولوجية أنّه يوحي بالعمق و الأنوثة فهو أيضاً دم و حياة الأرض و تجددها. من هنا نستطيع أن نفهم دور الدموع في قصائد الشاعر: لأنها ليست للنوح و البكاء على الأطلال حين يقوم باستحضارها بل على العكس يتحوّل الماء في أبيات د. محمد توفيق أبو علي إلى عنصر يرسم الحياة فيكفّ الغمام من أن يكون كدسةً من الدخان السام تحجب الهواء عن الروح ليستحيل بقوة الشعر و بفعل تعاويذ الياسمين إلى مطر يكنس الغشاوة العالقة على المهجة فلا يجب أن ننسى أن هذه التعاويذ الياسمينية ما هي إلا انعكاس جليٌّ للحب الكوني و الإنصهار الكليّ:
” يا حزن، أين الماء؟” (ص. ١٢) و ” فيا دموع تكلمي// كوني مداد يراعتي (…)” (ص. ١٤).
كلما اختنقت القصيدة و لم يمطر الغمام، أتى حبر الشاعر المتّخذ صورة الدمع ليبلسم الجراح : ” في أيلول// يزهو الأصفر… يلبس ذاكرةً خضراء// تعرف سرّ الماء// لكنها تخشى المحول// في أيلول// شجر تظلله الروح… إليه تأوي عصافير روعها الصيادون” ( في أيلول، ص. ١٧) و ينفض عن حزنه الوجع الذي حلّ ببلاده: ” و طفقتُ أبحث عن بلادي// فسمعتُ في كنف الدجى صوتاً ينادي: يا سامعين الصوت// رُدّوا رحمةً// فأنا الشريدة يمتطي ظهري السراب… يقودني من ليل نورٍ نحو ضوءٍ قاتمٍ (…) فصرختُ من وجعي: بلادي!// آهٍ بلادي!” (بلادي، ص. ١٩).
نضيف إلى كل ما سبق أن نقول أيضاً أنّ الشاعرَ متعبٌ مثله مثل أبناء الوطن، كم من مرةٍ نقش شقاءه بين الأشطر:” متعب أنا// و ليل هاجرتي طويل// أرقب ظلاً لغصنٍ يبرّجه الماء// لنجمٍ يضيء فضاء الدمع في لواعج الفقراء” (زمان العشق، ص. ٢٧).
يكفينا أن نتذكر أنّ محتوى الديوان يرسم مشهدية حقبة معاصرة يعيشها الشاعر اكتظت بالتوترات الداخلية و الخارجية، من انفجار مدوٍّ لمرفأ العاصمة بيروت:” بيروت قومي أخبرينا// عن موتنا.. عن حقدهم.. عن جذب حبٍّ في مرايا مرفأ” ( إلى بيروت العظيمة، ص. ٩٢)، إلى حروب على صعيد العالم المحلي و العربي و إلى حربٍ جديدة و من نوع آخر مع وباءٍ أصغر من نملة و أفتك من عدو الذي أطاح بالبشرية جمعاء. كذلك موت بعض الأحبّة و الأصدقاء أضناه حتّى الأصدقاء في الكلمة المناضلين كسماح إدريس و الذين لم يعرفهم على الصعيد الشخصي لكنّه تأثّر لرحيلهم: ” للمناديل التي أوجعها هذا الرحيل// ما يبوح الغيم للدمع الهاون..” ( إلى المناضل سماح إدريس، ص. ٨١). فاستحال الدمع ماءً يخفف من ثقل الأحزان: ” أهادن حزني و أمضي إلى غابة الظن…” ( تعالوا أحدّثكم عن حزني، ص. ٣٥).
صحيح أنّ الحزن حين بلغ ذروته في قلب الشاعر جعله يشعر لوهلة أنّ البلاد غادرته:” الجوع أضنانا، و الرغيف صار المشتهى” ( تغادرني البلاد، ص. ٨٧) فخاطبها قائلاً: ” متى تعودين؟.. قولي لي الحقيقة!” لكنّه بقي مؤمناً دوماً أنّ الحبّ قادرٌ أن يرفع البلاء و يعطي البهجة للنفس:
” ما أحيلى الحبّ يابسةً و ماءْ// ورداً ترتله الشمس صباحَ مساءْ…” ( ما أحيلى الحبّ، ص. ٤٠) و أنّ للياسمين تعاويذ شافية: ” ضع بلسماً من عين ماء لم تزل// عيناً لأبهى ذكريات لا يغرّلها الردى” ( يا ياسمين، ص. ٣٨). ثمّ في نهاية القصيدة نفسها يضيف مناجياً الياسمين :
” كن ضوع حبّ في متاهات السنين”، لتصبح الوجوه أجمل بدفئها:” ما أجمل الوجه الذي يجلي المرايا الخاشعة// و يطوف أرجاء الكلام الشاسعة// وجهاً شهي الدفء يغمرني كظلّ” ( ما أجمل الوجه، ص. ١١)
فيكفّ الشاعر يتساءل كما في مطلع الديوان و تحديداً في القصيدة الأولى “يا غمام الروح”:” يا غمام الروح أيّان الهطول// ظمئ الري و غيض الماء، و اصفرت مرايا الخصب في كل الحقول” لأنّ تعاويذ الياسمين حوّلت الغمام مطراً فاستحال الدمع حبراً و ارتوت الروح.
قراءة ممتعة وتحليل عميق ، شكراً د.ساندي .
تحليل عميق ورائع.
بوركت دكتورة.
استحقاق حق لشخصيةٍ تعرف كيف تستخرج رحيق الياسمين حبراً على أوراق الروح
لم تكتفي شعرا يا دكتور بل انك نسجت كل أنواع الأدب في كتابٍ لتنهل منه عقولنا كثيراً من الحب
ياسمين يفوح من تحت مسامي مرسلاً تحية لك استاذة ساندي على هذا النقد العميق فأيظاً حرفك هو ماءٌ ونحن نحتاج الحياة