المشهدية الفلسطينية
دفء طفولي نفسي، ونظرة أمومية حنون، وسرد حار للتراث الفلسطيني الحديث، هو ما يغلف مجموعة بحوث الكاتبة الفلسطينية “اليافوية”، رشا بركات،في كتابها الصادر حديثا: ” راهبة في المنفى: مقالات وحكايات رشا. الجزء الأول. دار فواصل للنشر. منشورات نصوص. شارع المقدسي. بيروت. تورزيع مكتبة بيسان ودار الفرات. ط١. 2023: 210 ص. تقريبا”. مجموعة نصوص أنجزتها الكاتبة ورقيا، في عز أزمة النشر التي تضرب لبنان والمنطقة . وفي ظل التحولات للنشر على المواقع الإلكترونية.
ركزت رشا بركات إهتمامها كله، كما في كتابها السابق: “لم أتذوق برتقال جدي”، على السرديات الواقعية. فأنجزت من خلالها، تشكيلات قوية، تفيأت ظلال فلسطين التراثية التاريخية. بحيث نراها تمضي بالقارئ إلى مشهديات، تتجاوز الفرح العفوي، إلى المآسي والبؤس، في مستويات مختلفة من الحالات الإنسانية. نراها تتحدث فتقول في “السرايا الثقافي في يافا المحتلة- ص٩”:
( أنا وجدت مسرح السرايا العربي! تسارعت دقات قلبي ورأيتني أستعمل كل ما بي من ” حشرية معرفية” غير آبهة بأي عواقب.) وتضيف الكاتبة: (علمت أن مسرح السرايا العربي قد تأسس عام1998، بنخوة من فناني فلسطين اليافعين المتعطشين لإثبات وجودهم الفلسطيني والإبداعي.. وإيمانا منهم بأهمية دور الثقافة والتوعية على عدة صعد. وهم المحرومون من تنفس الهواء الفلسطيني. أو قول كلمة فلسطين، حتى بحرية.)
لا تكتفي الباحثة رشا عادل عبد الرؤف بركات، بنفسها، “تيمة” واحدة، أو نوتة نفسية فريدة واحدة، تنوع عليها مشهدياتها اليومية ، مما غرفته عيناها، أو مما إختزنته ذاكرتها. لذا نراها تمنح مجموعتها الجديدة، عنوانا أبيض: “راهبة في المنفى”. في إستعارة جمالية لطهرية الثوب، وقداسويته، الذي يشي به بياض الأيام الفلسطينية، وبخور معابدها وأعيادها. تلك التي لا تني تتوشح بالأحمر القاني. نسمعها تتحدث في “بنود رامون- ص٣٨”:
(ماذا تريد من القدس يا رامون؟. فإسمك لا يشبهها.
حكايتي اليوم، عن شخصية سياسية من المحتلة لوطني فلسطين. لا بل من فراعنة العصر الحديث. حكايتي عن الوزير السابق في حزب العمل الصهيوني، حاييم رامون، الذي يعتبر قائد عنوان ” فصل القدس عن أحيائها العربية” لدواعي بيئية ديموغرافية وسياسية أمنية.)
رشا بركات، تحمل في نفسها وفي حركتها طاقة مزدوجة: فيها كل الرضات والجروح التي لم تزدها إلا قوة وإصرارا. تقص حينا العزلة والإنهيار. لكنها تبرهن دائما على مناعتها وقوتها في متابعة السير على أقدامها، في جبال الشوك التي أقامها العدو الغاصب في وجهها. إنها مناخات الضيق والإنكفاء والإختناق بالحاضر المؤلم. إنه الصراع، إن لم نقل الحرب، وسط منازل متهدمة ودروب راحلة. إنه فراغ الأشياء من روحها، بعدما كانت ملأى به. بل إنه العصر الرمادي “المغبر” و “المغبش”، الذي يفصل العالم عن فلسطين في حاضرها اليومي، في يافا والقدس ومخيمات اللاجئيين. نستمع إليها تروي لنا في “سمك البوري- ص ١٣٢”:
( حكايتي اليوم عن سمك إشتهرت به مدينتي يافا يسمى البوري. فأنا السمكة التي لا تعرف أن تعيش خارج بحرها.. لكن تلك الحكاية، تخبئ مع سرا، ستكتشفوه… إشتهرت مدينتي يافا الفلسطينية العريقة والتي حول الإحتلال أجزاء كبيرة ، لما يسمى تل أبيب، ببحرها ومينائها والصيادين طبعا. عدا إشتهارها بالبرتقال. ما أحب أن ألفت إليه اليوم في حكايتي، هو نوع من أنواع للسمك البحري في يافا، سمك البوري.)
رشا بركات الأديبة الطالعة من وهج المعركة ومن ومن بياض اليوم السابق، تكتب نفسها. تفعل ذلك، حين تمسي معراة تماما من دثارها: دثار الدفء والأمان والتماسك الإنساني. إذ تعرف في قرارة نفسها، أن لا شيء يعوض ما فقدته من عمرها ومن يدها. نستمع إليها تروي في “طاقات الطفولة الفلسطينية- ص175”:
( تعاني فلسطين من أزمات متراكمة سببها النكبة أولا، وما تلاها ثانيا. لكن، وبرغم كل المشاكل والمصاعب والحروب، إلا أننا نرى طاقات نوعية على مستوى الشعب الفلسطيني بكامل أطيافه وأعماره.
حكايتي اليوم عن طاقات الطفولة الفلسطينية. ولكنني لن أسرد ولن أتطرق إلى امثلة كثيرة. وسأكتفي بالقليل. ولأن هدفي واضح. وخير الكلام ما قل ودل.)
رشا بركات، هي أبنة وحفيدة “أرض البرتقال الحزين”. إبنة يافا عاصمة الثقافة التراثية لفلسطين/ يافا، أم الغريب. لا تخترق الواقع، حين تقول: إنها “تكتب منذ أن كان عمرها خمس سنوات لفلسطين”، كما ورد على ظهر غلاف مجموعتها التي بين يدينا. بل تريد أن تقول، إن جميع الحروف التي تهجتها في فلسطين، هي نبض كتابها اليوم وغدا. تقول رشا بركات في “قيسارية- ص١٨٧”:
” قيسارية” هي من أقدم المدن الساحلية الفلسطينية التاريخية العريقة… إحتل الصهاينة مدينة قيسارية سنة1947، عبر سياسة الهدم والقتل والتهجير، بالعنف. فبنى الإحتلال على أراضيها بعد “التطهير العرقي”، مستوطنة مغتصبة أور عقيفا سنة1951. وكذلك أتبع أراضي أخرى منها إلى مغتصبة “سدوت يام” التي تم تأسيسها سنة1940…بنيت في الأصل على أراضي خربة أبو طنطورة المسروقة. والتي تقع جنوب قيسارية.)
هذا الإصرار العذب، على التوحد مع فلسطين، ولادة وقراءة وكتابة، هو ما يخشاه عدوها. ولهذا نراها تقاوم به، ولا يفل عودها. نستمع إليها تقول في “جفرا- ص١٩٢”:
( جفرا الحبيبة تلك المرأة الفلسطينية الشهيرة، التي أصبحت رمزا وأيقونة فلسطينية… لكن حكايتي هذة ليست عن شعار الأنوثة الكنعانية، ولا عن سحرها وجاذبيتها التي أوقعت إبن عمها بها وشغفته حبا فراح يناديها في غفوته حتى…لا. لا إنما عن فرقة فلسطينية تراثية إتخذت هذا الإسم إكراما ل ” جفرا”. جفرا.)
رشا بركات، تعتمد الأدب التجريد، حين تذهب إلى الواقعية الفلسطينية، الممغنطةبالإرادة القوية. ولهذا لا نرى في موضوعاتها كلها، التي حواها كتابها الجديد، قصصا عفويا وحسب، وإنما نرى فيها زيادة على ذلك، مجموعة مختلفة. هي عبارة عن تكوينات واقعية. ولو كان يخالطها قدر من التجريد. ولهذا فإن كتابها: “راهبة في المنفى” ، يستحق القراءة، تماما مثلما مقالات وحكايات رشا، تستحق التأمل، والإنصات إلى ما تخبئه في أغوار أعماقها.