متحف الندى
جدالية زيارتي ل”متحف الندى”، أرهقتني لمدة أسبوع بكامله، قبل أن أحزم أمري: متى أزور “متحف الندى.”
هكذا ، فجأة، قررت صبيحة يوم الجمعة الواقع فيه27/5/2022، أن أزور “متحف الندى” في “رأسمسقا”/ ، في تلة “المون ميشال”/ أو “الهيكلية” ،اليوم “، المشرفة بكرومها، وبجامعتها، على طرابلس. حيث “المحول الدائري” المستحدث، على مدخل طرابلس الجنوبي في منطقة البحصاص، في الطريق إلى الكورة.
أسبوع بكامله، مضى، وأنا أقلب نظري، في هذة الزيارة التي ألحت علي فجأة، لزيارة “متحف الندى”. ذلك أني، كنت قد زرته منذ ثلاث أسابيع مضت، في آخر يوم من أيام شهر (رمضان-1/5/2022).
كان “متحف الندى” مقيما، في القبة- طريق الأرز. وفجأة بعد أربعة أيام. إهتز “متحف الندى”. إهتزت عمارته من الحجر الأبيض. أهتز منه الجذع. مال الرأس. إنبسطت الأيدي. هزتها عاصفة قوية. أخذ “متحف الندى” يدور في مكانه. أصابه لأول مرة دوار عظيم. هوي عظيم، ما ذاقه من قبل. فهو منذ إثنين وتسعين عاما، هو في الريح، يعاندها وتعانده.
لا أعرف كيف قدرت له العناية الإلهية هذة التجربة. لا أعرف كيف “متحف الندى”، لأول مرة، يزور مستشفى “المظلوم”. في منطقة “الضم والفرز”. كان لا بد لمثله، حين يهوي من وقع الريح، أن يحمل إلى “المظلوم”، حتى يسند المظلوم المظلوم. حتى يعيد إليه الإعتبار، ويدفع عنه مظلوميته، لقرن من العمر، إلا بضع خطوات.
عشت إلى الهاتف لأسبوع وأكثر. كنت أطمئن على تفاصيل الإجراءات الطبية اللازمة، التي يقترحها له الأطباء. وكانت حبال عيني، تروح وتجيء على شاشة الهاتف. تؤمن الظروف اللازمة، للخروج الآمن. وقد تحقق بعد أسبوع بكامله من العناية الصحية. حتى قال لي الأطباء: إن “متحف الندى”، قد إستعاد نضارته. وإستقرت به النوى، في “رأسمسقا”.
عاودني الإلحاح لزيارته هناك. كان لا بد له أن يكون هناك. فتح “متحف الندى” أبوابه لزيارات الأهل. وأما أنا، فلا أزال أعالج أمري. كيف أزوره. كيف أستطيع أن أزوره. كيف أستطيع أن أزور متحفا من ثلج ومن ندى. فقد تغيرت الدنيا. أصبح الإنتقال من بيروت إلى طرابلس دونه “خرط القتاد”. لكنني كنت أقول لنفسي: “لا بد مما ليس منه بد”.
شددت العزم، وتوجهت من منزلي بالحمرا، إلى ساحة البرج للإنطلاق مصاحبة، في التاسعة صباحا، إلى طرابلس، قاصدا “متحف الندى”. أستظل أفياءه، لساعة أو ساعتين.
أول المفاجآت، أن نعود إلى البيت بالحمرا. في تقاطع: غاندي/ المقدسي. لأغراض هناك في البيت. عرجنا لنحمل منقوشات الزعتر، في شارع السادات. حملتها على عجل. ونسيت هاتفي هناك. فعدنا من ساحة البرج إليه، في شارع السادات. حملناه من جديد. والوجهة عندنا، طرابلس.
في برج حمود، عاد صاحبي إلى بيروت، لضرورات تخصه. فترجلت. وتمهلت صاحبي. وقلت: لن أعود عن مهمتي في زيارة “متحف الندى” هذا اليوم. نزلت على الفور، من السيارة.
خرجت ماشيا إلى الطريق العام. وجدتني أندفع بكل قوة، لم أشعر بمثلها طوال حياتي. لأصل إلى الأوتستراد المؤدي، من برج حمود، إلى طرابلس.
وما هي إلا بضع دقائق، حتى إستقليت مركبة، سارت بنا الهوينى، تبحث عن مسافرين. ثم هي إستقرت فجأة في محطة لها. في منطقة نهر الموت.
عاد صاحبي للإتصال بي بعدما تعثر أمره. نزلت من المركبة وإنتظرت حضوره إلي. ثم لم نلبث أن سارت بنا مركبته تتهادى. والإتصالات معه، ظلت جارية. ولم تنقطع.
وصلنا إلى مدينة جونية. حسم صاحبي أمره وعاد إلى بيروت من جديد، بعد إتصال به. فنزلت من السيارة. وعزمت أن أكمل طريقي. وقررت الوصول إلى “متحف الندى”، مهما تعثرت الأمور.
إتصلت وأنا أتجاوز مدينة جبيل، لأخبر “متحف الندى” بقرب وصولي إليه. وبعد أقل من ساعة، كنت أنزل على المحول الجنوبي/ دوار طرابلس، في محلة البحصاص، لآخذ طريقي، إلى رأسمسقا، حيث “متحف الندى”.
مشيت من الدوار، إلى مفرق البلدة. بعد ثوان قليلة، وصلت سيارة الأجرة. وبعد عشر دقائق، كنت أفتح باب السيارة، وأنزل إلى “متحف الندى”.
كان “متحف الندى”، قد خرج في جولة حول الطبيعة، في برية آدم. بين كروم العنب، و الزيتون والتين والوزال واللوز. يلم الندى إلى عبه، وهو على كرسيه. كانت الطبيعة الغناء كعادتها، تحتفل به. كانت ماسات الندى مثل الجواهر، تعظم على صدره.
عقود عظيمة من الماسات المتلألئات، حول عنقه العظيم، الذي يرتفع مثل المئذنة. مثل برج. ها هو يطل علي، فتنصفق شبابيك القلب بقوة، مثل عاصفة قوية، ضربتني. هزتني. هوت بي عليه. فما عرفت كيف دخلت في طقسه، فجأة. كيف هويت فوقه. كيف إرتميت بين أجنحته. كيف فاجأتني طيور الحجل، وهي تصفق بأجنحتها. كيف تهوي الدور والقصور. كيف تخرج منه. كيف تعود إليه. كيف تحط. كيف تطير.
أسراب السنونو، أم سطور الفراشات. أم عيون الغزلان. أم شموس، أم أقمار ونجوم. أم تلك الوهاد الخضراء. وتلك الجداول. وكل هاتيك الينابيع. كل هاتيك الحساسين. مناديل ، مناديل، هي. ويدان من مناديل الربيع. من مناديل العشب. من مناديل الندى. من مناديل الحرير. كنت تشممت عطرها، بين يديه.
على باب “متحف الندى”، جثوت على ركبتي. كنت ألم القطرات الفضية بعيني. كنت أعبئ رئتي بعبير أعشاب البساتين التي خبأتها تلك الجرار المسحورة بالضوء، في ثيابها. كان الوجه شلالات من النور. لم أر في حياتي، وجها سحرني، مثل ذاك الوجه، في تلك الهنيهات التي صعقتني، مثل مس كهربائي. مثل مس مغناطيسي. مثل مس الروح بالروح، والسقوط المفاجئ. مثل قتيل.
متحف للندى، وجهها. تلك الجرار التي تنهض فوق بعضها، قامة من عروس. مضت طوال حياتها، تعبئ عطر البساتين، قوارير قوارير، في فساتينها. في جواربها. في مناديلها . في شالاتها. في وجناتها وفي عينيها، وفي أصابع كفيها. حيث نبع الندى، يصنع متحفه لي. ويدعوني من بعيد.
كنت أصغي لهسيس الماء، يفسر أحلامي تحت قدميها. كان التراب الذي تدوس عليه، يدعو لها. كان الندى، يرش من ثوبها، على الأرض أزاهيرها.
“متحف الندى”، وجه أمي. كان بؤبؤ عينها يغمزني. يهمس لي: يهوي بي إلى حضنها. تريد أن تضمني. هوينا معا على بعضنا.
ساعة في أفياء “متحف الندى”، عشتها. مثل كل عمري الذي أتى فجأة إليها. فاجأني الندى بقسوته. أقسى من قلب ام إذا بكى. أقسى من قلب أمي، إذا بكى.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.