مقبرة الصناديق
يوم الحزن هو هذا اليوم: 15/5/2022. أطلب منك أيتها البلاد الجميلة الرحبة الصدر، أن تمدي لي يدك. فأنا في ضيق شديد. أكاد أختنق. يكاد صوتي يختنق. لم يعد أمامي متسع من الوقت، كي أحاول أكثر مما حاولت. ولا أن أعمل أكثر مما عملت. ولا أن أجتهد، أكثر مما إجتهدت. ولا أن أمشي أكثر مما مشيت.
ها إنظري إلي أيتها البلاد الحلوة كطفلة كنت رفيقها منذ الصغر. خلعتني الريح ككوخ بستاني رقيق الحال، كعرزال، كغرفة مهجورة كانت تأويني، كبيت صغير ضم إلي بعض عمري.
أيتها البلاد الصغيرة الحلوة كطفلة، شوتني الشمس. شوت جانحي. حرقت عيوني، لكثرة التحديق بها. ذاب مني بؤبؤ العين، وأنا أنظر من ثقب صغير في باب غرفتي المهجورة، لخيط الفجر.
أيتها البلاد الطفلة. يا بلدتي الحلوة الصغيرة: إمحت قدماي وأنا أسعى بين الصخور والوديان والتلال، والوهاد والسهوب. أسرح مع الذئاب عند الفجر، ولا أعود إلا بعد الغروب. ألململ شقاء الروح في غبار الدروب، وفي فزع الطير. يطاردني عواء الليل، كلما غرقت فيه. أجري دموعي في مياه النهر. في أمواه البحر. وبين يدي مجدافي: مجداف صغير، ككف يتيم، مكسور الخاطر.
سألتك أيتها البلاد الحلوة كطفلة صغيرة، عرفتها مثل عشبة الشتاء في الزمهرير، أن تمد لي يدك، في آخر الدرب. كنت أنرته لكل العاثرين، بضوء عيني. والعتمة: تملأ قلبي. تشقى بي. تملأ كل جحورك . كل نواحيك الموحشة.
اليوم فرصتي. لا تدعي أيتها البلاد التي أحببتها، أيتها الأشواك التي أيقظتها منذ الصباح الباكر، كي تذهب معك ملء عطفيك. كي تزين تاجك. كي ترتق آلامك، وأنت تحدقين في الصندوق الأسود، الذي أعد مذبحا جديدا لك، لمئة عام جديدة. الذي حضر صندوق شكاوى لا أكثر ولا أقل. و رتب لك فيه، صندوق إقتراع لخنق صوتك.
كل أصواتك، في كل الصناديق واحدة اليوم. تنظر إلي. ترمق دموع جميع الأجيال التي مشت في ثيابي. ترمق هتافات الشبابيك المخلعة. ترمق صراخ الأشجار ودوي الوديان، وبكاء الأنهار. تلوح للقادمين في أول الدرب. للآفلين في آخر الدرب.
كل أصواتك، في كل الصناديق واحدة، في هذا اليوم. تلك هي معجزتك. تجعل الموت واحدا في وحدة الصوت. فمن يسمع صراخ الصوت في الصندوق. من يصغي لهسيس الدم القادم، بعد إختناق الصوت.
سألتك صغيرتي. أيتها البلاد الحلوة مثل إبنتي. أن تمدي لي يدك، كي لا أغرق في بحار الدم غدا، كما فعلوا في (……) ، بعد دفن صناديق الإقتراع، في المقابر الجماعية التي أعدت لصوتي.
أيتها البلاد الطائشة مثل طفلة صغيرة: عرائس الصناديق، مثلها عرائس النيل، تغيب في اللجج، ليطفو الموت فوقها، بحرا من الدماء. تنتظر هذا الموعد كل أربع سنوات، تماما كما تنتظر عرائس النيل، مواسم الطوف، حتى تجدد موتها. سألتك أيتها البلاد الطفلة، أن تبقي عصية عليهم. فلا تذهبي إلى صنادق الإقتراع، حتى لا تخنقي صوتي. مد إلي يدك. يد الرحمة بي وبأهلي. فلا تغرقي صوتي في عرائس الصناديق هذا اليوم.
سألتك أن تمدي لي يدك: أنا المختنق بدموعي، وقد أودعت صوتي في الصناديق. وغدا يذهبون بها للريح والنيل. للنار والنهر والبحر. أتذرر رمادا على أيديهم. ثم يعودون بعد أربع سنوات للعبث بي. لأخذ صوتي مجددا، لمقبرة الصناديق.