صبحي زعيتر
الرجل الذي إختفى
لا ينحبس الدمع وحده في المقلتين. ربما ينحبس معه الكلام. ربما يصير حديث النفس، حبيس الصدر، حين ينحبس الدمع في الجفنين أيضا.
التعويل على الكتابة إذا، في هكذا موقف محرج. بل التعويض بالكتابة، ضمن قانون التعويض الطبيعي. حين الفقد.
لم يكن غياب الصديق صبحي زعيتر المفاجئ، فقد واحد، وإنما هو بنيان قوم تهدم.

حين بلغه موت الصديق المشترك صبحي في المقهى الذي كنا نعتاده ، قبيل رحيله بيومين، إنتبه الشاعر نعيم تلحوق. أراد أن يغير الحدث. قال لنا: لا تقولوا مات صبحي. “قولوا إختفى. “
للوهلة الأولى، لم أنتبه لبرهة صبحي ونعيم. لحدث البرهة المفاجئة.لكنني تأملتها. تواصلت معها. فكرت بها. وجدت فيها حلا، للثورة على “قانون الموت”.
حين يرحل أمثال صبحي، يتجسم معناه. يعظم الرجل. ويعز الفقد. فنذهب مع نعيم، بالتعويض عن “القانون الطبيعي”. نقول: إختفى.
تراني إذا، أحدثكم عن الصديق: صبحي زعيتر، الرجل الذي إختفى. أجيب على سؤال نفسي، بنفسي، فأقول: أن نعم. أختفى صبحي. وكفى.
الرجل الذي إختفى بعد يومين، من لقائنا به، لا زال يملأ علينا كل الزوايا. لا زال يحتل بيننا كل المقاعد. لا زال ظله في أصل الحائط. لا زالت أنفاسه، عبق الحوانيت، عبق الصالات، عبق الحنايا. وأسرى الضلوع. كلما إقتربنا من كرسي، نرى الرجل الذي إختفى، يجلس قبالتنا، وكأنه وصل قبلنا. وكأنه إختفى ليكون حارس المقهى. حارس الجلسات الطويلة. أنيس الحلقة. ينشر عباءة ظله علينا جميعا، يضربها لنا. فتتسع خيمة صبحي. فنتكئ. نأخذ راحتنا، نؤاخي الفقد. يصير الفقد مؤنسنا. فنكتال أنفاسنا من جديد. نمازج بها أنفاس صبحي، وكأنه ملازم لنا.
“صبحي زعيتر: الرجل الذي إختفى”، غير عادته. كثف حضوره في كل جلسة. يسبقنا إليها قبيل الموعد المحدد، ويحتلها. ينشر ثوبه على كرسيه. يضع فوقه قبعته. ثم يأخذ يترأس الجلسة. وكأنه رئيس الجلسة.
هذا هو معنى الإختفاء الذي حف به الشاعر نعيم تلحوق، فقد الصديق، صبحي زعيتر المفاجئ. غضب “غضبة عمرية”. شهر سيف المعنى، وقلب ظهر المجن للموت الحق، وقال لنا: لا تقول مات صبحي. قولوا إختفى. هدد أعناقنا كما فعل عمر، حين بلغه، موت محمد. هم مثله بضرب أعناقنا بسيف المعنى، إذا ما قال قائل: إن صبحي قد مات.
كلما جئت إلى المقهى، بعد وداعه الأخير، أراه أمامي، “منتصب القامة يمشي”. أجلس. فيجلس معي. أنهض. فينهض معي. أتمتم التمتمة المعتادة، فيشاركني، ويفك مني حبسة الكلام ويتمم لي المعنى.
كلما جئت يسبقني ظلي إلى المقهى، يتراجع ظلي. ويتقدم ظل صبحي. يغطيه. فأصبح وصاحبي معي: ذلك الرجل الذي قالوا، إختفى.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية

سلمك الله على هذا المقال بفقيدنا الغالي عمي الحبيب صبحي زعيتر.
اطال الله بأعماركم و قدركم علي المضي في مسيرة صبحي لكي يكون لنا أمل بوطننا الحبيب المسلوب.