خاص : موقع ” ميزان الزمان ” الأدبي :
.. صدر حديثا في إطار ” منشورات شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة ” كتاب للأستاذ شفيق حيدر فيه نتاج تجربته مع التعليم خلال 58 سنة في الثانوية الوطنية الأرثوذكسية / مار الياس / الميناء وحمل عنوان ” زاد الخريجين ” ليكون كتابا يحمل آفاق العلوم والاختصاصات للمتعلمين بناة المستقبل .
الكتاب يضم 152 صفحة من الحجم الوسط وغلافه شعار المئوية الأولى للثانوية التي تأسست عام 1900 , وقد نفذت الغلاف الأنسة ألسا شوقي الخوري .
كلمة تقديم الكتاب لمعالي الوزير النقيب رشيد درباس , وجاء في كلمته :
… ، جاءَ استاذُ الفلسفةِ والأدبِ، المتضلّعُ باللّغةِ العربيّةِ، وربيبُ الفرنكوفونيّة، شفيقُ حيدر فتولى الإدارةَ، وخاضَ غمارَ تجربةٍ شاقّةٍ، نشَرَ فيها شراعَه عكسَ الرّيحِ و ” فوقَ الريح” إذْ قرَّرَ أن يُطوِّرَ المدرسةَ بالمباني والمعاني في خضمِّ أمواجٍ عاتيةٍ من الفوضى الأمنيةِ والسّياسيّةِ والاقتصاديّة، فتمزّقَ قِلْعُهُ حينًا، وانكسرَتْ دفّتُه أحيانًا، ولكنّ بوصلتَه بقيَتْ متوجِّهَةً نحوَ الأمامِ لأنّه لم يكن يومًا من ” قليلي الإيمان”، بل سار على خطى أخيارٍ سبقوه، طبعوا مراحلهم بإنجازاتهم، وها هي مدرسةُ “الموسكوب” الصغيرةُ المطلَّةُ على البحر، اللّائذةُ بحرمِ الكنيسةِ، تتحوّلُ إلى مَقصدِ طالبي العلمِ من كلّ لبنان؛ ورغم أنّها تابعةٌ للوقفِ الأرثوذكسيِّ ظلّت، مدرسةً علمانيّةً، ومناخَ حرّيّةٍ فكريّةٍ، وحضنَ كلّ مَنْ يَمَّمَ شطرَها أيًّا تكنْ طائفتُه. ولعلّ أهمَّ ميزاتِها، أنّها كانَتْ تسعى بأنْ تُقدِّمَ للفقراءِ، ما تقدّمُه مدارسُ الأغنياءِ لطلّابِها.
زرْتُ شفيقًا مرّةً، فراحَ يُطَوِّفُني في الرّدهاتِ والطّوابقِ، فيتملّكُني حنينُ شعورِ التَّلمذَةِ من جهةٍ، كما يتملّكُني الإعجابُ بما أنجز لاحقًا، ولكنّه، وفي يوم “سيامتي وزيرًا”، وعذرًا للتعبير، أقامَ لي حفلَ استقبالٍ جمعَني فيهِ بمَن بقيَ منْ أساتذتي، وبكثيرٍ من الطّلّابِ، فشعرْتُ أَنني واحدٌ منهم، وتذكّرْتُ مثلث الرحماتِ المطرانَ بولس بندلي عندما دعاني في كنسيةِ رحبة في جنازِ المحامي المرحومِ رياض منصور لإلقاء خطاب النّقابة وقالي لي: نحنُ نشتركُ مع المحامين بالرّداءِ الأسودِ فلا ضررَ من أن تكونَ واعظًا في الكنيسة.
أعودُ إلى الكتابِ، فأستنتجُ أنّ قرارَ شفيق يضمِّ خطبِ حفلاتِ التخرّج في باقةٍ ورقيّةٍ واحدةٍ ينطوي على أمورٍ عديدةٍ، منها صيانةُ الذّاكرةِ لأحداثِ ردحٍ طويلٍ من الزّمنِ، ومنها حقُّ المتقاعدِ بالافتخارِ بما أَنجزَ في سني حياتِه، وفيها أيضاً مباهاةٌ محقّةٌ بأنَّ تخريجَ أجيالِ الطلّابِ بعدَ بنائِهم حرفًا حرفًا، وشبرًا شبرًا، منذ الحضانةِ حتّى اليفاعِ، يتقَدّمُ على كلِّ إنجازٍ آخر.
أمّا ما يستدعي الانتباهَ في مجموعةِ الخطبِ، أَنّها كانَتْ تاريخَ طرابلسَ ولبنانَ استطراداً، في الحقبةِ المشارِ إليها، فكثيرٌ من الاحتفالاتِ كان يتمّ بين المتراسِ والمتراسِ والقنبلةِ والقنبلةِ، والدّوراتِ العنفيّةِ العبثيّةِ، وكأنّهُ كانَ بهذا يقولُ “أمّا بارودُكم فيذهبُ جُفاءً، وأما ما ينفعُ الناسَ فيمكثُ في الأرضِ، وينتشرُ إلى ما وراءَ البحارِ.
هو، في العام 1994، أطلقَ في حفلِ التخرّجِ ثمانين سهمًا منيرًا في سماءِ لبنان، كانت تعبيرًا عن الفرح بثمانين متخرّجًّا ألّفوا دفعة السّنة، أمّا وقد جاوزَتِ الآن قرنًا وعقدًا، فلا تزال (مار الياس) الصبيّةَ المغناجَ، تغري بها الأمواج وتصدر لها الأفواج.
أخشى، لوتركْتُ لقلمي العنان، وأخذَني الاستطرادُ، واسترسلْتُ في الذّكريات أن يضيقَ الكتابُ بالمقدّمة، ولذلك أتأدّبُ بآدابِ الضّيافة فأختم وأقول: بوركت العقولُ التي تربّي العقولَ.
عناوين محتويات الكتاب :
لقاءٌ وفرح | |
واحةٌ في صحراء الحرب | |
قنابلُ للحياة | |
اقبلوا الحياةَ ولا تشاكلوا أهلَها | |
مركبُ الحرّيّةِ والعقل | |
حاجتُنا إلى اختصاصاتٍ تقنيّة | |
غايتُنا إطلاقُ الإنسان | |
حرّيّتُكم في داخلِكم | |
المربـّي الحرُّ ينشّىءُ أحرارًا | |
تربيةٌ في خدمة المحتمع | |
الحرّيّةُ والفكرُ توأمان | |
إن حبستم ذواتِكم تذبلوا | |
الحياة للحارّين فقط | |
إيّاكم أن يستعبدكم المال | |
ثمانون سهمًا في سماء لبنان | |
هل يحكم العقل بواسطتكم؟ | |
نريدكم ناسًا | |
التّاريخ لكم بالمرصاد | |
الإنسانُ منعتُنا في زمنِ السّلام | |
الثّقافة عمل جماعة | |
علمٌ ترفده المحبّة | |
حكاية الأمس واليوم في مدرسة بكفتين | |
التّفوّق ومكارم الأخلاق | |
بين ذكرياتٍ وتطلّعات | |
الأخلاق سياج السّلام ودرعه | |
نصر الشّباب في “قبّة النّصر” | |
كلّنا مسؤول في العمليّة التّعلّميّة | |
ديناميّة التّربية | |
مستقبلكم في الاستقلال عن أنفسكم | |
مسؤوليّة البيت أكبر | |
العمل بغير علم لا يكون | |
في التّطلّع إلى فوق التّحرر السّليم | |
صرتم من تاريخ المؤسّسة خمس ملاحظات حول رسالتنا | |
الطّموح الهادىء | |
منعة الوحدة | |
أنتم الأساة والحماة | |
الإنسان هو المشروع الأهمّ | |
لكم الغد | |
إيّاكم وخطرالتّطبيع | |
أنتم لنا وعد | |
يقظة العقول سابقة للتّحرّر | |
منكم نورانيّة الغد. | |
عرس العقل وسط الجنون | |
العلم والتّواضع | |
ليكن لكم لسان واحد | |
شبابنا هم الرّجاء الآتي | |
اطلبوا النّجاح واسعوا إليه | |
أتقنوا المعيّة | |
الحياة أقوى من الموت | |
عوامل التّفوّق | |
ستكونون في الدّنيا منارات | |
أنتم رجاؤنا بالصّبح الآتي | |
مقاطع من الكتاب :
من كلمته تحت عنوان ” واحة في صحراء الحرب ” نقتطف المقطع التالي :
والمرحلة الثّانية الّتي رافقتم هي هذه الحرب اللّبنانيّة الوسخة. لقد ظلمتكم هذه الحرب كثيرًا، زرعت طفولتكم وحداثتكم ذعرًا وسوادًا. حدّتكم الحربُ وجعلتكم في وطنكم غرباء لا تعرفونه منطقة منطقة، ولا أثرًا أثرًا، ولا تربة تربة ولا دسكرة دسكرة، ولا قرية قرية. وبسبب من تفتيت البلد تغرّبنا فيه، وهذا أشدّ الظّلم.
ولكنّنا، مدرسةً ووالدين، سعينا ونجحنا، بالرّغم من قساوة الظّروف، في حمايتكم إلى حدّ كبير من شرّ الحرب. ولا أفشي سرًّا إذا قلت إنّ شرّ الحرب اللّبنانيّة أنّها جعلتنا نعيش واقعًا عنصريًّا هو واقع الشّرذمة والتفرقة الدّينيّة والمذهبيّة.
نجحنا هنا، بسبب من وعي أوليائكم الّذي هو فيضٌ من وعي أبناء هذه المدينة الأصليين، وبسبب من تاريخ هذه المؤسّسة ودورها الرّياديّ، وبسبب من توجيه الجماعة المشرفة عليها وإيمانها بالإنسان قيمة خصّها الله بالحبّ والرّعاية والحنان. نجحنا وكنتم الواحة لنا وسط صحراء هذه الحرب القذرة، وكنتم لنا الرّجاء بأن لا بدّ من أن “يتناهى اللّيل وينبلج النّهار” (رومية13: 12). كنتم أمامنا صورة الوطن الحقّ والموحّد، وكنتم لنا الردّ الوجوديّ على الواقع التقسيميّ الّذي نتلمّسه هنا وثمّة في أرجاء بلدنا.
ما أريد أن أتركه في أذهانكم هو أن الصهيونيّة خطر لا يلين، فظلّوا يقظين فيما تنتشرون الآن وتتوزّعون في لبنان وخارجه. ظلّوا واعين أنّ هذا العدوّ الوجوديّ الدّينيّ لا يرمي سلاحه. فعلينا أن نسهر ونسهر على أنفسنا وأفكارنا وأدياننا وفعلنا وردّات فعلنا حتّى لا ننساق ونتحوّل للعدوّ فعلة وخدّامًا من حيث ندري أو لا ندري. يجب أن تعرفوا عدوّكم أنّه ساهر يقظ حتّى لا تقعوا في حباله وتتشرذموا. انشروا حيثما حللتم الحلاوة التي ذقتم هنا، والوحدة الّتي خبرتم واقعًا لا كلامًا ونظريّات. أترككم على هذا الرّجاء وأؤكّد لكم أنّنا سنضاعف الجهد إيمانًا منّا بأن مستقبل لبنان في أيدي المربّين الّذين يسهمون في إعداد الإنسان المنقذ.
مقطع من خطبة : المربّي حرٌّ يُنَشِّىءُ أحرارًا
إنّ الفريق الّذي يتخرّج اليوم اقتنع أنه بالعقل والعلم ينمّي العالم ويجعله يزيد بهاءً وغبطة. إنّهم باقة من التّقنيين المتخصّصين الّذين يشهدون أنّ أيّة مهنة لا تنفع ما لم يزينها العقل الحصيف، وأن التّقانة لا تخدم وتُثمر الحبّ والسّلام والعدالة والجمال ما لم تعصف بها رياح إنسانيّةٍ مرتكزة على العقل والحرّيّة، لأنّ الإنسان لا يكمل إلّا بهما: بعقل يحكّمه في أموره بسيطها ومعقّدها، النّافل منها والرّصين، وبحرّيّة تجعله سيّدًا لا يقيّدع هوى أو منقول، ولا يستعبده موقف أو موروث.
ونعم المصادفة أن يجمعنا، نحن عائلة هؤلاء المتخرّجين، هذا الحفل اليوم في غمرة عيد الاستقلال، عيد الحرّيّة وعنوانها. الحفل حفلٌ تربويّ والمناخ مناخ استقلال. إنَي أقرأ في هذا التّوافق تذكيرًا بأنّ الحرّيّة أساسيّة في الورشة التّربويّة لتربية سليمة، إذ إنّ التّيّارات السّالبةَ من الإنسان حرّيّته، والمجمّدة إيّاه، تبطل العمليّة التّربويّة برمّتها لأنّها قائمة أساسًا على التّغيير، آليّتها التّغيير، ويفرض التّغيير حتمًا أن يكون الإنسان الّذي تربّي حرًّا. فالشّرط الأوّل لإمكان التّربية كامن في التّأكيد أنّ الإنسان لا يعرف أن يكون طورًا حرًّا وطورًا فاقد الحرّيّة. إنّه كلّه، ودائمًا، حرّ أو لا يكون.
إذا اعتبرنا الإنسان مقيّدًا، مسلوب الحرّيّة، هدمنا كلّ إمكان التّربية وأفسدنا العمارة الإنسانيّة. إنّ إنسانًا جامدًا، ثابتًا، ساكنًا في عادات واعتقادات وانفعالات لا يستطيع البتّة أن يحوّل ذاته، وبالتّالي لا يمكن أن يربّي. فكلّ نظام لا يقوم على الحرّية ولا يدين بقدسيّتها، ولا يرعى الحرّيّات العامّة يشوّه الإنسان ويعطّل التّربية ولو كان في إداراته ألف دائرة تُعنى بالتّربية، وأكثر من وزارة تهتمّ بالتّعليم. فالكائن الحيّ، موضوع كلّ تربيةٍ، لا يجوز اعتباره أبدًا عبد الموروث، أو عبد موقف أو رأي. إنّه حرّ لا يقيّده إلّا ما يمليه العقل. التّربية لا تحتّم ولا تفرض. إنّها تؤثّر فقط. هي تدعو الشّخصيّة لتختار هذا التّوجّه أو ذاك، لتسلك هذا المسلك أو ذاك. ويتأقلم الشّخص مع البيئة الإجتماعيّة جزئيًّا دون أن يفرّط بحرَيّة الرّأي والنّقد والاختيار. فاتّربية لا يمكن إلّا أن تؤسَّس على الحرّيّة وأن ترمي إليها أيضًا مبتغيةً إنسانًا حرًّا يعقل ويقبل أحكام العقل. فعلى المربّي أن يحترم هذه الحرّيّة. إنّه إذا وعى أنّ كلّ تربية مؤسّسة على الحرّيّة وأنّ آليّتها كامنة في لقاء الحرّيتين: حرّيّته هو وحرّيّة الإنسان الآخر الّذي يربّيه ويحترمه. ولمّا ينكر هذا الإحترام فإنّه يتنكّر لعمله بالذّات ولتأثيره على الآخر الّذي لا يحرّكه ولا يطوّرع إلّا بمقدار ما يأخذ فرادته وحرّيّته بعين الاعتبار.