( نقلا عن موقع جريدة ” النهار ” في بيروت )
كتب الشاعر مارون أبو شقرا :
ليس نقداً ولا هي دراسة، ما أنا في صدده ليس أكثر من إطلالة على مروج، وقراءة متواضعة في ديوان كبير.
“ولا الضّالين”، باقة قصائد من زهر للشاعرة حنان فرفور صدر حديثًاً عن دار موزاييك للدراسات والنشر.
ديوان شعر هو؟ أم مطارق من ضوءٍ وأزاميل تطحن صخور ظلام عتيق عميق، لتخرِجَ من بطونها واحات وبساتين وأصابيح.
ولا الضّالين، كتاب أهدته الشاعرة فرفور لرفاق ضاق بهم المنفى- البئر الغريبة- الخيام، إلى الآخرين المختلفين الذين شدّهم إنسانُهُم للغوص بعيدًا عن شط ساذج تافه ممجوج، فراحوا يعبرون لججَ صنميّة “تَمريّة” طوطميّة محاولين التقاط ذرّات أمل، تمكّن كيمياء العقل الواعي من صهر وصياغة وصناعة المستحيل… علهم يفلحون.
“ولا الضالين”، تجربة مغايرة في جدتها بدءاً من العنوان المأخوذ من خاتمة الآية الأخيرة من سورة الفاتحة “إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالين”.
يوم سمعتُ أن الشاعرة الصديقة قد اعتمدت هذا العنوان لمجموعتها الشعريّة تساءلت: لماذا أقحمت حنان نفسها بهذا الإشكال العقائدي، الحامل في طياته بعداً تمييزيّاً لا يشبهها ولا هي في هذا الوارد، حتى جاءني الجواب الجميل من خلال متابعاتي لمقابلاتها وقراءتي لمجموعتها الحديث.
أمّا الجديد، فقد جاء العنوان ليتجاوز معظم التفاسير الشائعة للنص القرآني، لينحصر “الضلال” بالفئات التي ضلّت سبل الاستقامة دوراً وسلوكاً وممارسةً وعيشاً فطغت ونافقت وراءت، ولم يعد “الضلال” صفة تلصق بذوي إيمان مغاير وعقيدة مختلفة، بل بات محصوراً بالخروج عمّا هو متعارف عليه في دليل القيم الإنسانية القائمة على الصدق والعقل والرشاد والأخلاق، لا على الإيمان بغيبيات لا أحد يملك القدرة على إثبات الصحيح منها وإنكار المغلوط، فالخطأ والصواب يتحدّدان من خلال سلوكيات ومعاملات لا من خلال تسليم بفكرة إيمانية وانتساب سطحي لممارسة شعائرية… مع حنان يصبح الحق والباطل مفهومين جديدين، لك أن تؤمن بما تشاء، ولي أن أؤمن بما أرغب دون أن يتسبّب إيماننا المغاير بتصنيف الناس بين أخيار وأشرار انطلاقاً من انتماءاتهم الدينية، فالشرّير ضالّ ممارس لفعل الشرّ، لا مسالم وجد نفسه مخلوقاً على دين أبيه، والخيّر ليس بالضرورة مؤمناً بما نحن به مؤمنون. وقد يكون الإنسان ملحداً ذا “قيم أخلاقية عظيمة”.
مدهشة حنان فرفور، هذه الشاعرة الخلّاقة النبيلة المهذّبة الجريئة، الرافضة بحكمة، الثائرة بعقلانية… لغتها عنيفة كعطر، قاسية كوريقة غاردينيا، وناعمة كبريق تقول:
“كلّ النبيّين شكّوا في ضلالتها
وحينما كشّفتْ عن ساقها اختلفوا!!
تقاسموها سريرًا بارداً أبداً
ثم ارتدَوا جلدها المزرق وارتجفوا!”
حنان كوريغراف خبير، تكتب بشعورِ موسيقار وعقل رياضي، وعندي أن كمال التحفة هي في كونها خلاصة ما توحي به العاطفة ويبتدعه الوعي العاقل، عاصفة هي كلَيلةٍ كانونيّة تعِدُ الأرض بربيع زاهر، تقول:
“لي وَحْمَتان من التّفاح في شفتي
لا لحيةٌ لي، فكيف الذّنب ينعتقُ؟
فحلٌ عجوزٌ يجرّ الوقت من أذني
يحسو غنيمته لو هزّه الحلقُ
فقل أيا شيخ: مَن مِنّا على زللٍ؟
هل قبلةٌ أم لحىً في الدين تختلقُ؟
يا ربّ هابيل كُلّي سَوءَةٌ ولهم
مليون ثوبٍ، فلِم أعرى وتنزلِقُ؟
هم أوقدوا بظلالي جبّ جهلتهم
أقوى من الضوء، أنثى حين تحترقُ !!”
استثنائيّة هذه الشاعرة المتمرّدة (الحبّ عصفور متمرّد، قالتها كارمن في أوپرا بيزيه)، حمامةٌ تخالف بجناحيها قانون الجاذبية الطبيعي، فتعلو لترفَع، وتسمو لتُرافَق، كنبيّة تمزّق حجب الأوهام المكرَّرة العاديّة الدّارجة السائدة الشّائعة المتَوارثَة، ليبصر المريدون في رحابة المدى والأفق واتّساع الرؤى ما صعب عليهم تلمّسه في شرنقة الاتّباع.
في قصيدتها “يمامةٌ على شبّاك المعرّي”، كتبت:
“هذا أوانكَ مطعوناً بأمنية
فلا نبيّ ويحيا داخل النسق
***
مولايَ أتعبني الضوءُ، النداءُ: أَفِقْ
ما أتعس الصحو… حين الكلّ لم يفقِ!”
حنان الإنسانة المغرقة في إنسانيتها وطبيعيتها، المترفِّعة المتعلّقة بالأرض وبساطتها والوطن الملاذ، المنتمية إلى الحياة، النّاذرة حبرها كحلة لعين الجمال، ترفض الاصطناع المخرِّب القاتل، ترنو إلى حياة أكثر هناء وعدالة وخيراً، تقول:
“أحبّ اللواتي يُروِّبْنَ غيم الضلوع
يخبِّئنَ تحت الوسادة دبساً
ويُشعلنَ تحت القصيدة شمساً…
***
فهذي القبيلَه
تُسَمّى انتفاخاً بلادْ
وسوط الفضيلَه
يغطّي احتشاماً جروح العبادْ
***
إن القبورَ تسمى مجازاً: حصاد!”
“ولا الضّالين” ديوان يليق به السطوع، بحرٌ ومرجان، وعرٌ واشتغال، نحت وحنين، سهل وعنب، جرد وأكوام زعتر ووزّال وباقات لعرس ملوكي… كتابٌ من نور، وغيث ومطر.