منامات جمانة السبلاني
إن كانت “الشعرية” تريد لنفسها، أن تتوسع في دنيا الأدب والإبداع، فلا بد لها من أثواب جديدة تلبسها، كلما ضوَّأ بيننا مصباح جديد. لا بد للشعرية إذا في هذة الحال، أن تخرج من جذوتها وتتلألأ في اللبوس الذي إختارته. آنذاك تصير “الشعرية” ذات صيغة أو ذات صبغة نثرية. ترى العناصر تترابط، لتكون الصورة. تتخلى عن قواعد الإيقاعية، تتأقلم مع تمثيل محتوى جديد، على الأقيسة الجديدة للبوس الفكرة. ولكنها تظل وفية للقوانين الجوهرية التي تقتضيها طبيعتها السائلة.فتصير “الشعرية” آنئذ كائنا عضويا أدبيا بإمتياز. كل هيكلها يخون أصله، خيانة خلاقة. تماما كما يخون الطبيعة التي أخرجته، ونفحت فيه الطابع اللامحدود كما القدرة الكلية على الإستحواذ.
الدعوة للتخفف من شروط الإيقاعية وكسر القاعدة ، تمهد بها جمانة السبلاني، في هذة المجموعة، من سردياتها الأدبية: “جمانة السبلاني. أناي. حكايات من الأدب السردي. منشورات: منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة. بيروت- لبنان. طبعة 1. 2022. 116 صفحة تقريبا”. نستمع إليها تقول في سرديتها “ندوب- ص13”:
(سوط يجلدني. يطرحني أرضا. يثني روحي. يملأ زواياها. ليته يهلك اليوم الذي ولدت فيه./ أهتف. أسكب مياه قلبي. أرفع يداي. أدعو… / لكن عيناي تنظران ولا تبصران…/ أذناي مفتوحتان ولا تسمعان…/ لقد إستحوذ الوهن على جسدي ونزلت الرجفة بي. أي عالم هذا الذي أحيا فيه؟؟./ خارت قواي وما عدت أفطن كيف الرجوع إلي. أحاول جاهدة أن أسترجعني. أن ألمح طيفي. أن أستشف عبيري. أن أسرق بعضا من ضحكاتي. ولكن يا حبذا. ليت كل ما يكسر يعود كما كان/ هي ندوب تحفر أخاديد لتبقى معالم تزورها النفس من وقت لآخر… / ندوب جف لها قلبي، فطحنته وطعمته للطيور وخبزت لي قلبا آخر لا يحمل ذات الطبيعة، كي لا يؤكل مرتين..)
تستهدي الأديبة الواعدة، جمانة سبلاني، بالحب الذي هو أشبه ما يكون بإنقلاب روحي شامل على طريقة الصوفة. أو أشبه بميلاد روحي، يغير مجرى الحياة الراكدة، فيصير قلبها بين “أنوين”. تخرج من “أنوية” مع الغسق، لتدخل في “أنوية” جديدة مع الشفق. تصيغ أحلامها في الليل. تحلم، حتى تملأ جرار الدار، من حليب الليلة الماضية، في الظلمة الدجى. نراها تقول في “الكنز- ص29”:
(بكيت قهري وفشلي وخوفي مني. كانت كل دمعة كالنار. تختار جرحا وتطهره. ثم تصب في بحاري المالحة، وتدفعني إلى القاع… / أين سأجد الريح والهواء النظيف؟. متى سأفهمني وأتصالح مع نفسي؟ متى سأقرأني في الواحات. في فيافي النور؟/ لقد قسوت كثيرا على نفسي. لمتها وإنتقدتها لأتفه الأسباب، حتى تعدى الأمر حدود القسوة ليصل إلى كره ذاتي وعدم تقديري لها. فلم ألتمس لها الأعذار…)
تعود لغة جمانة السبلاني، إلى غنائية الفرح والإحتفاء بعالم الروح المتعافية من جروحها. عناوين مجموعتها، تشي بأحلام ومنامات، جمعتها تحت ظلال الليل، حين كانت تؤوب إلى نومها اليومي والليلي اليقظ على الورد المصبوغ بالجروح. كأن الحب وحده الذي تحمله الريح في صوتها، هو الذي ينقذها من الأوجاع. تصدح بالرؤيا الصوفية التي تجمع المحبوب إلى المحبوب، كأنه العشق بكل صوره. بكل ألوانه. تضع ليلا في القلوب الصدئة، مواعيد الغد الذي يزهر للفراشات. تتذوقها بأقدامها رحيقا وعطرا. تقول في “أينك- ص50”:
( أناي…/ يا أناي المشاكسة!!!/ أين أنت؟ لا تغيبي أكثر. أنت صلة الوصل “بيني” و “بيني”. أنت “الأنا” التي تحولت إلى أسطورة تهوى الناس ويهوونها”./ إلتصاقي بك ليس من إجل الطعام والشراب أو الإبتهاج والرقص، أبدا…/ إلتصاقي بك لأنك تقومين بأعمال عجائبية في داخلي. تفتحين لي آفاقا لا يراها أحد غيري. ما بيننا تخطى حدود الصداقة… صار قداسة…”)
تتداخل عند جمانة سبلاني سرديتان، في النص الوحد. في المنام الواحد. كأن اللغة هنا تتكئ على قطبين للتوازن: أناها الليلي. وأناها النهاري. أناها الشخصي. وأناها الغيري. لأن للغير عندها أناها الذي يذوب مثل عسل المنامات، قبيل بزوغ الشفق. نراها تقول في “إستغاثة- ص61”:
( لا يمكنني إلا أن أصغي إليها. إن إدعيت عدم سماعها، لن تدعني وشأني. ستستمر بإزعاجي وتحريض كل حواسي، كي أستجيب لإصرارها…).
ثم تقول:
( خذي ما تريدين. خذيني… خذي كلي… خذي كل ما لدي…)
جمانة التي تعرضت للمواجع في بواكير حياتها، تكتشف نفسها في هذين الأنوين. تضع أوراقها تحت عينيها. ثم يبدأ مشوارها الطويل. تفهم من خلاله نفسها والعالم وتكوين الرؤى الخاصة بها. تكتشف حريتها في “أناها الأولي”. ثم تكتشف ضده، في “أناها الثانوي”. فيقع الشعر لها. يصوغ منام الليل، على ورق الشمس في النهار. نستمع إليها تقول في “سكون- ص68”:
( طال إنتظاري لإشارة ما.. أنا على إستعداد للخضوع لأي هدنة. وتحت أي شروط. فأنا بحاجة لإستعادة ذاتي. / أنا الآن مرمية في طابور من الفراغ: أنا، ووحدتي، والسكون… أبحث عن بقايا منّي. ربما أتمكن من جمعي وإعادة تشكيلي، كما إعتدت أن أفعل دائما…).
ثم تقول:
( عاشت تفاصيلي بتفاصيلها. وأصرّت أن أكون ضحيتها إلى الأبد… غمستني في بؤرة سحيقة. وأعلنت سقوط أسواري… / ولكن…)
فكرة الحرية عند جمانة السبلاني، إنما هي تحولات مستمرة في الذات. بحسب ما تشي به عباءة ليلها. إن هي إلا رحلة داخلية ونفسية، لأهمية ذلك في اللجوء القسري إلى الحلم. والخروج من عالم الرحم و المنام، إلى عالم الولادة والأحلام. نراها تقول في “صحوة- ص72”:
(تتسللين مختصرة رحلة عمري وكل أماني وكأنك ستنتصرين دوما؟…/ برأيك، أيهما يستحق البحث أكثر؟. عمري.؟. أم أماني؟.).
نحن إذا في هذة المجموعة، أمام أربعين “حلم منام “، ومنام. تراها لا تخفي ذاتها فيها . لأن جمانة لا تجيد التخفي في النصوص، ولا في السرديات ولا في الشهادات، ولا في المنامات. صريحة “كالشمس، في يوم صحوها”. تجسد رغباتها الفنية، في الهروب من الأسماء الإعتيادية، والقرب من هذا العالم الذي يجرد الأنوات، من إنسانياتها. نراها تقول في “غبار- ص82”:
( حاولت تخفيف حدة المعاناة وإزاحة بعض غبار ما حملته لي الأيام الماضية…. رأيت الأسى في أعماق أعماقها. أسى يقول: / “أناي”، هوني عليك. أنا الأقل حظا من الحقوق المشروعة، لأي مخلوق أينما كان. مع أنني أعلم في قرارة نفسي، أنني أستحق الأفضل بعيدا عن التهميش والغربة”.).
تتعدد مناماتها، بتعدد أيامها. تحاول أن تجيب عن أنها الفردي والثنائي، من خلال اللغة التي تذهب بها بعيدا في إنقاذ الروح وتعريتها. تقول في السردية نفسها- “ص83”:
( أناي، غاليتي../ أنا وأنت خارج لعبة النهب العاطفي وقتل الآخر… “أناي”…/ هل ستلتزم بالقسم؟.).
هي الهشاشة إذن التي تعيد لأرقام المنامات وجودها الحقيقي، وجرحها المكشوف الذي يمنحها ذاتا أخرى. قد تكون الأسماء والعناوين والليالي والأحلام والمنامات، مجازا، لمضاعفة ألمها. وقد يكون فقط لتحفيزها على التفكير، كلما إنقطع التفكير عنها في شباك المنام. غير أن علاقاتها ببعضها، في يومها، وفي غدها الذي يحمل أسئلة الماضي وآثاره وتداعياته، هي من البواعث الحقيقية، على طرح الأسئلة الوجودية عندها. تقول في “زوايا- ص97”:
( على الرغم من تثاقل جسدنا وترهله، تنبع عند الحاجة قوة شديدة، لا نعلم كيف ومتى. قوة تجعلنا نشعر كأننا نصعد هاوية لا نعلم مدى عمقها، إلا بعد أن نخرج منها.. ثم تقول: كانت خسارتها لتكون فادحة، لو أنني تمكنت من التشبث “بي” أكثر مما فعلت…)
كأن مناماتها الأربعين كلها، إنما هي من نسيج واحد. إلا أنها أتت بندوب أكبر. وبطرق مختلفة، تهيئ للنجاة، أكثر مما هي تهيئ للموت. تقول في “حب- ص٩٩”:
وكتبتني هناك، في زاوية النسيان… في النهاية… /أنا أكتب كي لا أموت…/ كي أستطيع مقاومة الموت… / كي أحيا…/ هل هذا علي كثير؟؟.)
العالم المتخيل عند جمانة سبلاني، موجود بقوة في مجموعة سردياتها، التي بين يدينا. وهو عالم شاسع، يحاول أن يحاور العالم الواقعي، من أجل إيجاد منفذ ما ، أو مصادفة ما، لحماية الروح. ولعل مثل هذا الحضور، إنما هو محاولة لرؤية الخروج إلى العالم، كما هو الخروج من خزنة الأحلام والمنامات. نسمعها في “مشاعر متناقضة- ص102”:
(وكتبتني هناك، في زاوية النسيان…/ هل كتبت نهايتي؟.)
تعاني جمانة سبلاني من العزلة، التي تطوقها في داخلها. ومن العزلة التي تطوق عالمها الخارجي. وبين هاتين العزلتين، تنمو الأنوان: الأنا الذاتوية والأنا الخارجية/ المجتمعية . تتحسس وجودها الغامض، بين عالمين، بين أنوين، فتأخذ بالبوح، لا لكي تصف العالم الداخلي أو الخارجي، بل لتدخل في جدال بنيوي معه، فتكتشف النوافذ، وتتشكل عندها خيوط الفجر. تقول في” “أنا” الجميع- ص105″:
(سأسافر/ فالسفر لا يجعل عالمي أصغر، بل يمدده ويجعله يتسع. هكذا تزيد روحي ثراء. وربما تخرج من قوقعتها التي لازمتها لنصف قرن.).
لا تدعونا جمانة سبلاني، للتعاطف معها، بقدر ما تدعونا لنفكر معها في المفكر به أدبيا ووجوديا معا في آن. ويصبح المنام عندها، فرصة إنتقال فقط. ويصبح اللجوء إلى الحلم، حالة سيكولوجية، نختبرها، من خلال صوتها العالي النبرة، الذي يواجه العالم النائم في الحلم. تقول في السردية ذاتها- “ص107”:
( غاليتي… ” أناي”../ لقد تخطيتني حتى صرت أناه. أناها. أناهم. أنا الجميع./ إلا أنا.).
سرديات، بل منامات جمانة سبلاني، عالم قائم بذاته. وأما العزلة التي تعاني منها في أناها الخاص، فهي جزء مهم لفهم هذا العالم.
هكذا تبدو الكاتبة في سردياتها، تحتضن الفانتازيا التي تحاور الواقع، في جميع مشكلاته اليومية، وفي جميع أزماته، من دون الوقوع، في فخ الشرح وسرد المآسي.
التصريح عن الأحداث نادر في سرديات جمانة السبلاني. غير أن نصوصها تشي بالأزمات النفسية والمجتمعية. وهي ليست متراتبة، بل تتماوج وتتداخل، حتى لكأننا نصل معها، إلى مكان آخر، من مخيلة القارئ الشخصية. إنها لدعوة لقراءة الكاتبة الواعدة في نص، يحفز لقراءة نص آخر. وفي منام يؤدي إلى منام آخر، وفي حلم يوقظ فينا حلما آخر. كأنها دعوة للخروج من عالم الواقع، إلى عالم الحلم. حيث إنبناء الوعي بالذات، والخروج إلى فضاء الحرية.
أما حساسية جمانة السبلاني العالية تجاه اللغة، لمماً تجعل سردياتها أكثر ميلا، إلى عالمها الخاص. فتظهر مشاعرها، وكأنها مركبات حقيقية لعالمها “الأنوي الخاص”، القائم على “ثنائي الأنا”. وهذا لمماً يشير، إلى أنّ لا نهاية مغلقة لعالمها الواقعي، ولا لعالمها المتخيل. لأنها تواجه الإغلاق، بحدة الإنفتاح على يوم جديد.