حشيش يابس
تبدو اللغة قلقة. موجعة. جارحة. لينة كماء تحت قارب. تبدو اللغة كيد. كمحاولة. كخطوة بطيئة. كسعي حية في رنة رمال السكون. هكذا يمكن أن يتراءى لنا: (فؤاد رفقة: عودة المراكب، دار نلسن، السويد- لبنان، بيروت. ط 1. 2009: 130 ص تقريبا).
تحت عنوان “إشارة”، (ص7) أراد الناشر، أن يأخذ بيد الشاعر الراحل. أن يصدر مجموعته هذة. كتب يقول: ” سنة1961 ظهرت مجموعة شعرية عنوانها “مرساة على الخليج”. يتابع الأستاذ سليمان بختي، يقول: “في هذة المجموعة البكرية رفع الشاعر مرساته وغامر صوب الأفق دون أن يعرف إلى أين. في هذة المغامرة عرف الأقاليم والخلجان. تعلم لغات غير موطوءة. وفي نهاية المطاف، أدرك أن النجوم البعيدة، تظل بعيدة. فعاد وفي شباكه الممزقة، صيد أقل بكثير من الحلم.” ويضيف الأستاذ بختي قائلا عن تجربة فؤاد رفقة في مجموعته التي بين يدينا:
” يعرف الآن أن المهم في هذة المغامرة هو المغامرة ذاتها، لا نتائجها… يعرف الآن أنه في هذة المغامرة كان عليه أن يسكن العزلة حتى القداسة. فالخصومة بين الإبداع ونداء الجسد، قديمة ودائمة الهدير. وهو يعرف الآن أن ما أصابه في هذة المغامرة، لم يكن مصادفة. فالأقدار أبدا ودائما ترسم الخرائط والإتجاه”. ويستشهد بالتالي بقول الشاعر:
” أيتها الأرض/هوذا إبنك الضال/ من التيه في الأنواء/ بلا وجه يعود/فضمدي شظاياه/مدي له السرير/أغلقي النوافذ/ وأطفئي الشموع/
رائعة كانت البحار/تحت الشمس/رغم الصواعق”.( ص٨).
يطرح الشاعر فؤاد رفقة، في مجموعته عودة المراكب، أسئلة، حول الحقيقة والوجود والهوية التائهة، وذلك من خلال رصد المسار الحياتي والإنساني الذي يتابعه في قصائده ومقطعاته الشعرية، والتي أقرب ما تكون إلى تسيجيلات تأملية يومية، وثيقة الصلة بحياته التي يقطعها. وببيته الذي يبحر فيه على ظهر قارب، يصارع الموج. أشبه ما يكون بمركب أحلامه وأوجاعه، حيث الأوقات الحرجة مع التيه والضياع والأحزان، والنسيان. في زمن العجز عن النسيان بين عتبة البيت وبوابة الوطن. وبين مراسي الشطآن التي يحل فيها “غريب الوجه واليد واللسان”، على حد قول المتنبي ذات يوم، وهو يصف غربته في “شعب بوان”، عند بني بويه بفارس. يقول فؤاد رفقة في قصيدته (لا: ص16):
أيتها القصيدة الواحدة/يا لغة المقدس/متى تبرقين/فيصمت الغجري/من القلب ينتشل الشوكة/ويستريح.”
من يقرأ قصائد فؤاد رفقة في ديوانه عودة المراكب، يقف على خلاصة تجاربه وأسفاره عبر الأزمنة الحديثة، وعبر الأزمنة القديمة. بل المغرقة في القدم. ولا غرو فالسفر واحد في الزمان، من خلال هذا الجسد الذي يحمل التاريخ كله على كاهليه، ويتوحد في البرهة النفسية. في المعالجة الرؤيوية وتجلياتها الفنية الرقيقة في الشعر الحديث. ينظر في الأزمات وفي الحروب التي عرفها الشرق، وعرفتها الإنسانية. ينظر بشيء من القلق إلى أوجه التشابه، بين اللحظوي، وبين السحيق، ثم يأخذ في الصعود من البئر، ويغادر العتبة، ليحلق في شرفة الكون، وينظر من الأعالي، لما كان له في البرهة الضائعة، في متاهات الحروب والمغازي والألغاز والحلول الضائعة خلف الركاميات الكثيفة. يقول الشاعر في قصيدته ( ولي: ص34):
لا صوت له/ودائم الكلام هذا الولي:/عباءته/عيونه/مسبحته/وفي الأسواق/باعة، صيارفة، مهرجون/ صراخهم يثقب الأسوار/ عن مسارها يرد الرياح.”
في عودة المراكب، يمكن لنا أن نقتفي أثر هذا الشاعر اللغز، هذا الشاعر المسحور، بالأمكنة. نتابع معه سلسلة طويلة من إستقصاءاته، متخفيا عن صخب الحياة وعن هدير البحار والمحيطات، وعن ضجيج المدينة. وسنكتشف ولو متأخرين، بأن نصوصه الشعرية، إنما هي تجربة جديدة وجادة في عالم البحث عن الروح في العشب اليابس في البحث عن النار التي تتربص ألسنتها بالعشب اليابس. في البحث عن الماء الذي يروي الجذور، ويعيد للعشب اليابس، زهوه ونضارته، وألقه الأخضر، “كأنبوب السقي المذلل”، كما رآه الشاعر، في ساق صاحبته “عنيزة،” ذات تجردها، في غدير “دارة جلجل” بفلسطين. يقول الشاعر في قصيدته (عائلة: ص80):
“شتاء،/جفنة مقفرة،/ عش من الطين والأعشاب/ تسكنه الأمطار:
قديما/ تحت لحاف واحد،/ كان دافئا بريش العائلة”.
فؤاد رفقة، في لغته الرقيقة والبديعة، صائد النفوس، لأنه بارع في تظليل شعره بالرؤى والأخيلة المبتكرة. لأنه بالأصل، “صائد الفراشات”. فهو ينفر من كل أشكال الإطالة والإسهاب التي عرفت عند بعض الشعراء. يفضل الإلماحة السريعة، ك”رفة جنح”، لعصفور صغير، يغازل الشمس،في برهة الإستسقاء، على حصوة الماء. فالإختصار والسرعة في السرد وفي كتابة المقطعات، هو ما يعجب القراء، لأنهم يعيشون معه لحظات القلق الوجودي. ولهذا ربما لم يعرف ديوان فؤاد رفقة ( عودة للمراكب)، كما في سائر مجموعاته الشعرية، إلا المقطعات البالغة الفنية، ينثرها تحت شجرة دلب، عظيمة الجذع، حتى يأنس بها، دبيب الحياة في سرية تامة. سرية أشبه ما تكون سحرية. تشي بالخوف من فضيحة العوالم المشتتة في النصف الثاني من القرن. في النصف الثاني من الأرض. نستمع إليه يقول، في خواتيم ديوانه عودة المراكب: من قصيدته (شاعر الحجر:ص108):
الحجر يرتعش/ من الظلمة ينبثق/ يتوهج/ كإله بدائي يفجر الخلق/
الحجر لغة موشومة بالبدء/ قدرية/ إشارات تبرق
الحجر يلين/ يشف/ يتبخر/ ويعلن المقدس
الحجر يتجسد/ يتأنسن/ في الوجود يغوص/ وفي الجرح
الحجر وجه سيزيف.”
فؤاد رفقة، في مجموعاته كلها، وخصوصا في مجموعته الشعرية: عودة المراكب، وضع نفس محل مقارنة مع نظرائه في مجلة شعر، في فترة كان فيها النشاط الأدبي فذا، وزاخرا. فكيف له، أن يتألق، وحوله أدونيس وسعيد عقل، و يوسف الخال، وأنسي الحاج، وآخرون كثيرون، ممن تحلقوا حول “مجلة شعر”، في ستينيات الشعرالجميل، من القرن الماضي. فبعد سنين من رحيل فؤاد رفقة، لا يزال ديوانه (عودة المراكب)، كما سائر دواوينه، تحوي إضمامات من العشب اليابس. أضابير، أضابير. لا يزال ديوانه: (عودة المراكب) ينتظر القارئ، “صانع المطر” بعينيه فوقها/ فوقه، حتى ليخضل الشعر فيها، مبنى ومعنى.