وجدانيات الضفاف
بهذة الأبيات المفعمة بالرقة والعاطفة والوجد العميق، تفتتح الشاعرة العراقية أسماء الشرقي، مجموعتها الشعرية:(“شفاه الريح” ** ، فواصل للنشر ، بيروت-2019: ٢٢٨ ص. تقريبا)، حيث تتصدر المجموعة، قصيدتها “إكسير الحياة ص 7″، تقول:
الجوع يا ولدي يذهب الثنايا
يدرب القلب على العصيان
ويمنح الطريق نواميس الخيانة.
وتتابع:
الجوع يرقص على مرافئ العيون
يهب الرغبة معنى التمرد
يعلم اللهفة كيف ترسم تعاويذ النفس الذائقة للحرمان.
ثم تقول في الختام:
هو الجوع يا ولدي..
الممدد في المزامير الأبدية
رافعا يد السماء… على أردية الروح المسافرة
هو إكسير ما تبقى من رفاة فلسفة الحياة.”
تبحث أسماء الشرقي إذا، عن مأوى من الجوع المداهم. ترى فيه موتا يسبق الموت. ترى فيه كل هذة الهمجية المستعرة التي تضرب ضفاف حياتها، وتشق أعماقها، وتسيل غضبها، كما السديم الجارف، كما الوجدان بين الضفاف. حتى لتبدو في برهة اليتم والعوز والشوق، غريقة الضفاف.
تشهد أسماء الشرقي في مجموعتها هذة التي بين يدينا، على سرد رواية القهر والجوع والموت، في المجتمع الذي يعاني من متلازمة: الذل والفقر والحرب. فالناس لا يريدون إلا البقاء على قيد الحياة وحسب. وهم بين هذة الضفاف، يحاولون المصالحة مع الأوضاع القهرية التي يفرضها المتجبرون الأقوياء. وربما صغارهم أيضا. حتى يتم تدميرهم شخصيا، قبل تدميرهم مجتمعيا، وقبل تدمير مجتمعاتهم بالكلية.
فالأطفال عند أسماء الشرقي، هم الأحزان الدائمة، بدل أن يكونوا الأفراح الدائمة. فقد غير اللاعبون بالحرب والدم، قواعد الناس. غيروا مثلهم. غيروا تطلعاتهم. عطلوا القيم، كما عطلوا قواعد الحياة. كانت الناس في المجتمعات العربية القديمة، تفرح لثلاث: “ولادة صبي ونبوغ شاعر وإنتاج ناقة”. وأما اليوم، فقد ماتت هذة القواعد المجتمعية عند الناس، وهم يرون الآلة تهرسهم هرسا. وهم يرون موت الطفل غب الولادة من شدة الحرب والفقر والجوع. وموت الشاعر، بموت الحلم الذي إفتقده، وصار وراء الحروب. تقول أسماء الشارقي في قصيدتها( النون الشامخ في النقصان – ص30):
نون/ فوق الصخب/ نون / تحت الحطب/ صبية يرقصون/ الفرحة يتراشقون/ بأعواد الثقاب يراوغهم اللهب/ يتهجى الوجوه الفتية بكثير من/ بريق العيون.)
ثم تتابع قائلة:
نون / قلق تحت التراب/ قلق فوق السحاب/ ينتفض على ركبتي القمر / والصبية يرقصون/ يتهافت الصوت/ يومئ ببحة للوجوه الفتية/ بكثير من القلق.) ص31.
لم تكن أسماء الشرقي، لتعتقد أن الحياة سوف تقلب للناس ظهر المجن. ولذلك باغتتها. باغتت الناس كل الناس، بمتلازمة؛ “الذل و الفقر والحرب”. خضت هذة المتلازمة وجدان الضفاف. كل الضفاف. وما كان من الناس من يصدق أن هذة السيرة للأحزان، ستخض الوجدان، وتجعله يطوف بين الضفاف. لكنهم وجدوا أن هذا الأمر، صار “أمرا واقعا”. صارت الناس مقهورة في أوطانها. صارت الناس مغلوبة خارج أوطانها. حفرت في وجداناتهم خطوط الحرب. خطوط المواجهة. خطوط التماس. وجدران الفصل والعزل.
العائلات بلا متاجر وبلا كهرباء وبلا ماء. وبلا أدوية. وبلا عبوات “حليب الأطفال” لأبنائهم. كل شيء صار قهريا. كل شيء صار مأساويا. ولهذا ربما تتوجع أسماء الشارقي، بدل أن تفرح حين ترى للصبية الأحياء، ولأولاد الفراش. تقول من قصيدتها (حرائق الرمل-58):
عدت حافية
من حرائق الرمل ورجع القوافل
وخبات بشباك ظلك
أشيائي المبللة بملح عشب مذبحي
قم يا صاحبي
قم.. في الهزيع الأخير
وإرم بجننك في دمي
حتى يقال إنه يقظان عصرها
ونرسيسها المنذور للسرمد.) -ص59.
الشاعرة أسماء الشارقي، لها خجلها الفطري، حين تتذكر نفسها. تتجاذبها حكمة “حي بن يقظان”، ونرجسية “نرسيس”، فيطوف وجدانها، بين الوجودية المتسائلة عن صاحبها، وبين النرجسية الخافقة في قلبها، ولهذا نراها عميقة الوجدان بين هاتين الضفتين اللتين رأت فيهما خلاصها الحياتي القهري المعاش، في الذات العميقة للشاعرة.
الإفصاح السردي عن حياتها الشخصية عن حياتها الثقافية. عن حياتها العاطفية، فهي من تكوينات مختلفة، مخضبة بالوجدانيات السابحة بين الضفاف اللامتناهية في أرضها، وفي عمق وجود الأرض في ذاتها العميقة. ولهذا نراها مرهفة وحساسة، تنحو نحو لغة الإشارة والإيماء، أكثر من القدرة عن التعبير عن فوراناتها الداخليية، وعن مشاعرها المحتدمة في داخلها.. وهذا ما تؤكده لنا قصائدها العديدة في هذة المجموعة الوجدانية للشاعرة أسماء الشرقي. نستمع إليها تقول في قصيدتها (ظل البلد-96):
لاخيارات لي في هذا البلد/ في إشتهاءات هذا البلد/ في نواقيس صباحات هذا البلد/.) ثم تضيف:( عزل نحن/ وذاك العزيف لا يرى/ ظله في الهدير /في الصعود/ في النزول/ في إرتجاف المور النائحات/ في إرتدادات الصوت من وحي الضباب/ لا خيارات… فعلا/ لا خيارات لهذا البلد/ طورا يقطع حدا/ ثور يأكل فهدا/ جزر يرهق مدا. ) ص97.
الشاعرة أسماء الشارقي هي حقا أسيرة “وجدان الضفاف”. مجموعتها شديدة التميز. وهي لذلك تعتبر من بين مجموعة من الشاعرات، اللواتي مزجن العواطف الإنثوية، أموميا ووطنيا وعاطفيا وقوميا، وجعلتها جميعا تذوب في وجداناتها الخالصة، تجدف بين الضفاف، علها تصل إلى مرافئ القراء، تحمل بيدها خيط الدهشة.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
-×-×-×-×-×-×-×-×-×-×-