بحصة الخابية
قلما يستطيع الإنسان أن يعيش لحاله، حتى ولو كان “إبن طفيل”. أو حتى لو كان “روبنسون كريزويه”. فما بالك بإنسان اليوم، وقد تحوطته حداثة العصر من كل جانب. فصار يحتاج إلى الدولاب. وصار يحتاج إلى الكهرباء. وصار يحتاج إلى عبوة ماء. صار يحتاج إلى Visa- Carte، بعدما سطت (…..) على “الفريش”، وخباته في دكاكينها، إنفاذا للأوامر النافذة المأمورية.
إحتال المسؤولون على الخابية. أخذوا من تحتها البحصة. قالوا لها: إنها حصوة صغيرة من الحصى الكثيرة، ولا شأن لك بالحصى. شأنك الماء الذي تترعينه. التي تترعه الخابية. وكفى لك ذلك من حاجة.
كان الأبالسة يعرفون سر الجرة والحصوة. ضحكوا على ذقنها، وإنتزعوها من تحتها، على حين غرة. فتمايلت ذات اليمين وذات الشمال. وسرعان ما هوت، بعد ضربة ريح عاجلتها. فهوت على الأرض. وتحطمت، وسال الماء. إنسكب مثل دم ضحية. إنسكب مثل دم مغدور، عالجته رمية رامية.
لبنان مثل جفن مملوءة بالدمع. مثل “قفة هموم”. مثل يوم مليء بالغيوم. مثل ليلة شاتية عظيمة السواد، عظيمة الظلال. كانت “الليرة”، هي الحصوة. هي البحصة التي تسند الخابية. ظلوا يعالجونها سنين وسنين، حتى إستطاعوا إقتلاعها. حتى أسقطوا قلعتها. حتى أسقطوا القلعة.
كانت الليرة “بحصة الخابية”. تسند خابية الأحزان. وخابية الأوجاع. وخابية المغدورين. تسند خابية الوطن الذي ضاع بين المطرق والسندان. بين أقدام الفيلة. تسند خابية الشعب الذي يعاني كل يوم من الحروب. الذي يعاني كل يوم من الإعتداءات. الذي يعاني كل يوم من اللصوص ومن الطغاة. ومن الجبابرة العتاة.
خابية لبنان، كانت ولا تزال تعاني من كثرة الطامعين. يخططون لتهجير الناس عن مدنهم. عن قراهم. عن أرضهم. يخططون لإقتلاع الناس من بيوتهم ومن منازلهم، ويدفعونهم على المغادرة. يكرهونهم عليها، بالترويع والتخويف والتخوين. وبتفجير الأرض من تحتهم. والتلويح لهم بالقتل علنا. أو بالإغتيال. بالسطو على فلوسهم. وجعلهم عرايا في العراء.
مضى اللبنانيون، يعالجون أوضاعهم المأزومة. كانوا يتكيفون مع الأزمات. نافوا على أعدائهم. نافوا على خصومهم. نافوا على سراقهم. نافوا على المخططين، حتى إستطاعوا إفشال جميع خططهم. فشل المخططون. ونجح لبنان وحدة متكاملة: أرضا وشعبا ومؤسسات.
فطن أخيرا أعداء لبنان إلى اللعبة القذرة، التي كانوا يلعبونها، كلما أعوزتهم الحاجة لتهديد الشعب، كل الشعب. لتهديدالكيان. كل الكيان. لجأوا إلى حيلتهم الأولى، التى كثيرا ما لجأوا إليها، حين كان الناس ينتصرون عليهم، فلا يطاوعونهم، فيما يعزمون عليه من القتل والتهجير. قرروا اللعب هذة المرة بالليرة. قرروا نزعها من تحت جرتهم. من تحت جرة أحزانهم. قرروا نزعها من أيديهم. قرروا نزع “بحصة الخابية”.
أفاق اللبنانيون، في الهزيع الأخير من ليلهم، على “الليرة اللبنانية” تتهاوى، فيصيرون جميعا، في مهب الريح. أفقدوا الليرة عشقها للبنان. أفقدوا الليرة تعشيقها، بالكرامة والسيادة والعدالة والقانون. أفقدوا الليرة تعشيقها بالحرية والديمقراطية والنزاهة. سلبوها من الشعب، وجعلوها في خزائن اللصوص والطغاة. اقفلوا عليها الخزائن. أغلقوا عليها أبواب البنوك والمصارف. وجعلوا الشعب يئن تحت وطأة الحرمان والجوع. صارت الليرة في مهب الريح. لم تعد تسند خابية الأحزان.
طارت بحصة الخابية من عيون اللبنانيين. قامروا عليها. حتى يركعوا جميعا، في المعركة القادمة، بين عدو وشقيق وصديق. حتى يركع الوطن. حتى يركع لبنان.