( نقلا عن صحيفة ” النهار ” اللبنانية )
قرأ الشاعر والناقد أنطوان أبو زيد في كتاب الشاعر شوقي بزيع الأخير ” مسارات الحداثة” وكتب يقول :
شوقي بزيع ناظرًا في “مسارات الحداثة” الشعرية وآفاقها :
لا شكّ في أنّ بعض الشعراء العرب الحديثين قد نالوا مكانة معلومة في سجلّ الشعر، وباتوا مؤثّرين في مسار الشعر العربي، بتلاوينه الكثيرة، وأساليبه المختلفة باختلاف نبرة الشاعر وثقافته وتجاربه. ومن هؤلاء الشاعر اللبناني شوقي بزيع (1951) والذي غالبا ما أدرج اسمه في عداد “شعراء الجنوب” من مثل: الياس لحود، ومحمد العبد الله، وحسن العبد الله، وعصام العبد الله، وجوزيف حرب، ومحمد علي شمس الدين، ومحمد فرحات، وآخرين.
بالطبع ليس المجال، ههنا، متاحًا للحديث عن تجربة شوقي بزيع الشعرية- وإن تكن جديرة بالعرض، لمواصلة الشاعر إبداعيّته منذ أكثر من خمسة وأربعين عامًا- وإنّما كان صدور كتابه النقدي “مسارات الحداثة” (2021) عن دار مسيكلياني، مناسبة للحديث عن مضامين الكتاب، وأهمّ ما يثيره من آراء ومواقف من قبل القارىْ المختصّ أو القارىْ العاديّ. وأوّل ما يتبادر الى ذهن القارىْ المتابع شؤون الثقافة والنقد، هو مسألة اشتغال الشاعر ذي المكانة المعروفة في عالم الإبداع، بالنقد، وإبداؤه الرأي الكاشف والمقرر فيه. للردّ على المقولة الأولى -الداعية الى لزوم امتناع الشاعر عن النقد احترامًا لمبدأ الاختصاص- نقول إنّ تخصيص الشاعر بإنتاج الشعر، من دون غيره، منافٍ لطبيعة المواهب والكفايات المتعددة التي قد تكون لشاعر دون آخر. هذا وإن أضفنا عاملا آخر، هو الثقافة النقدية التي تُعطى لشاعر، في مرحلة تكوينه الأكاديمي و الثقافي والفنّي والمهني، فإننا واجدون، بلا أدنى شكّ فوارق بين الشعراء، فمنهم يكون شاعرًا وناقدًا شعرَ غيره بمعايير تمتّ الى النقد الموضوعي، ومنهم يكون شاعرًا فحسب، لا يجد سبيلا الى نقد شعر الآخرين، ولا الى نقد شعره الخاص؛ ولنا أمثلة كثيرة، في شعرنا العربي الحديث: فما بين الياس أبي شبكة وبشارة الخوري (الأخطل الصغير) بونٌ شاسع لصالح الأول، وكذا الفارق بين شوقي أبي شقرا وأدونيس، وبين يوسف الخال وفؤاد رفقا، وبين شارل بودلير وألفرد دوموسّيه، وغيرهم الكثير.
بالعودة الى كتاب الشاعر شوقي بزيع النقديّ “مسارات الحداثة”، فقد استهلّه الكاتب بمقدّمة أو “تقديم” ضافٍ (ص:5-70)، وأتبعه بعرض تجارب شعراء الحداثة العرب، بحسبه “بسبب الدور الطليعي والمؤثّر الذي لعبوه ولو بتفاوت ملحوظ”. وقد بلغ تعداد هؤلاء الشعراء خمسةً وعشرين (25) شاعرًا، أوردهم على توالي ذكرهم في الكتاب: سعيد عقل، نزار قباني، بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي، بلند الحيدري، أدونيس، خليل حاوي، صلاح عبد الصبور، سعدي يوسف، أحمد عبد المعطي حجازي، مظفّر النواب، محمد الفيتوري، محمد الماغوط، يوسف الخال، أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا، توفيق صايغ، عصام محفوظ، محمد عفيفي مطر، محمود درويش، أمل دنقل، حسب الشيخ جعفر، سركون بولص.
في التقديم المشار اليه أعلاه، سعى الكاتب شوقي بزيع الى توضيح بعض النقاط المتّصلة بمسألة الحداثة، بعدما يبيّن وجود “نوعين متغايرين من الإبداع”، أي الشعر والنقد، وأنّ ثمة شعراء يجمعون في ذواتهم بين النوعيْن المذكورين، قاصدًا نفسه منهم. ومن ثمّ يتطرّق الى الحداثة ذات الجذور العائدة الى عهد التنوير، وأثر الفلسفة الحاسم في تغليب حرية الفرد على الجماعة، وتعزيز مكانة “العقل والحرية والمساواة والتسامح والعلم” (ص:13) على حساب سلطة الدين ورجاله والملِك والتقاليد والأعراف القاهرة. ولئن اختلفت تواريخ بدء الحداثة، بحسب الكاتب، بين أوائل السابع عشر وأوائل العشرين، وفقا للمنطلقات الفكرية والفلسفات، فإنّ الثابت أنّ صعود الذاتية الفردية، في الغرب، مصحوبةً بتنامي الفلسفات المؤيّدة للفنون وتعبيراتها، والتوجّهات الحضارية الإحيائية والمثالية، ساهمت جميعها في توليد هذا الدافع غير المرتدّ الى التجديد، في الشعر، كما في سائر الفنون التي عرفها العصر. وبناء على ذلك، فإنّ الحداثة التي بلغها العالم، في الفنون وغيرها، ما كانت لولا “شروط التطوّر التقني والاقتصادي وتوفّر الحرية والديمقراطية” (ص:27). ويمكن لي أن أضيف شرطًا لازما للحداثة وهو تحرّر الأذهان من سطوة التقليد، وهذا لعمري نتاج الحراك الفلسفي والفكري وتغلغله في وجدان الفئات الأكثر حضورًا على الساحة الفنية والأدبية، عنيتُ الشعراء والقصّاصين والرسّامين وكتّاب المسرح، وسياسيي النخبة، وبناة الرأي العام، على حد ما يثبته كتاب مرجعي عن التنوير لجوناثان إزرايل.
ثمّ لم يفت الكاتب بزيع الحديث عن حداثات، لا حداثة واحدة، وهذا ما كان يمكن ملاحظته من توزّع اتجاهات الشعراء العرب المحدثين، ما بين الحربين العالميّتين، تضاف اليها حساسيات لا يني الكاتب الباحث يسوّغها بالاستناد الى المزيد من المراجع، العربية والأجنبية، ويرسم تحوّلها مع الزمن من حداثة النبرة الخطابية العالية دفاعًا عن “روح الأمّة” (ص:34)، الى حداثة “الرهافة” والغنائية المفردة ونزعة التانيث، وحداثة النص المفتوح، وموضوعات المكان الأول ومعاناة الهجرة عنه، ومن ثمّ حداثة محاكاة الاتّجاهات الغربية (الكلاسيكية، والرومنطيقية، والبرناسية) وقد توشّحت بلمسات خاصة وعوالم فريدة لدى كلّ من الشعراء العرب المتورّطين فيها، ولا سيما أولئك المنضوين تحت لواء مجلاّت (أبولّو، شعر، الطريق، الآداب، المواقف)، ذات التوجّهات الفكرية المتفاوتة . من دون أن ينسى الكاتب عامل الثقافة الخاصة والانتماء الحزبي، والطبائع العصية على التدجين والتقولب الإيديولوجي. ويختم الكاتب الشاعر بزيع بمقولة إستقاها من الناقد المصري صلاح فضل بأنّ الشاعر لا يستحق صفته إلاّ بأن يكون “صانع أسلوب وصاحب مشروع جمالي ومعرفي ورؤيوي” (ص:68). وبهذا يتعيّن النظر الى شعراء الحداثة العرب لتصنيف أسلوبهم وتقييم مقدار إضافتهم الى التراث الشعري من قضايا ونظرات جديرة بالبقاء.
وإن صحّ أنّ الآراء التي بسطها الكاتب بزيع في تقديمه، أعلاه، في شأن الحداثة الشعرية العربية، قد تكون معايير عامة لدرس الشعر العربي الحديث، وإبراز أهمّ ملامحه عبر محطّاته التاريخية المتعاقبة، فإنها محاولة نقدية بانورامية تضاف الى العديد من الدراسات البانورامية الجادّة، أذكر منها دراسة أنطون غطاس كرم، وإحسان عباس، ومحمد الناصر العجيمي، ومحمد جاسم جبارة وغيرهم.
أما القسم الثاني من الكتاب، والذي خصّه بدرس موجز لكلّ من الشعراء الخمسة والثلاثين، فكان كناية عن مقالاتٍ استخلاصية في شعر الشاعر بعامة، وربما في شخصه أيضًا، وترتبط بالطبع بالحداثة الشعرية العربية وبمدى إسهامه فيها. وإن كان لا يتسنّى لي، في هذه العجالة، النظر في كلّ هذه المقالات التي أعمل الكاتب فيها معاييره السالفة، فإني أكتفي بستّ منها -والباقي للقراء الأعزاء- دليلا كافيا على المنهج الذي اتّبعه الكاتب وأهمّ النتائج التي بلغها وبعض ما أستحسنه من الملاحظات بشأنها.
المقالة الأولى شاءها الكاتب عن سعيد عقل، فأوجز صورته بعنوانها الآتي: “شاعر القيَم الغازية والأنا المتعالية والبلاغة القصوى”. ومن ثمّ يفصّل الكاتب بادئا بملحوظة حول عمر الشاعر البالغ مئة وسنتين عند وفاته، ثمّ منتقلا الى وسامته الخَلقية وجماليّته الأسلوبية التي حاكى بها البرناسيين – لا الرومنطيقيين- الى رمزية طفيفة، وغرابة وابتداع في صوره الشعرية، ينظم كلّ ذلك إيقاع واحتفال بالمرأة المتخيّلة، لا الواقعية، وشعور شوفينيّ بلبنان، من ذاتية متعالية، على ما أشرت. والحداثة، في كلّ ذلك، لا تكاد تفارق صوَره الشعرية، ومعجمه، ورؤاه المنسجمة مع تطلعاته.
المقالة الثانية شاءها الكاتب لنزار قباني، مالىْ دنيا العرب غزلا وإثارة للتساؤلات والسجالات النقدية الموزعة بين التأييد والرفض. ولمّا كان عنوان المقالة “تحرير اللغة من معاجمها والجسد من قيوده” فقد أشار الكاتب بزيع الى أنّ قبّاني “صنع حداثته الخاصة”، التي تقوم على الضدّ من حداثة سعيد عقل؛ من حيث مفرداته القريبة من المتناول، وصوره الشعرية الأليفة، وأجواؤه المدينية، وإباحيّته اللطيفة، وصورة المرأة الواقعية بمشاعرها ومفاتنها ونزواتها. أضف الى ذلك، أنّ قبّاني، على ما يقول بزيع، أمكن له أن يضرب على وتر “المكبوت الجمعي” (ص:85)، ويبني له عمارات شعرية متحررة من القوالب التقليدية الجاهزة، وصولا الى تجريب قصيدة النثر!
وفي مقالته عن نازك الملائكة، يحاول الكاتب تفصيل العنوان المقترح لها وهو: “الانتصار للأنوثة المقيّدة بالشعر الحر”؛ إذ يجمع بين كونها الأنثى الوحيدة وسط الشعراء، في الاربعينيات من القرن العشرين، ومغالبتها المحرّمات والذوق العام القائم على التقاليد و”العمود” الشعري ببسطها غنائيّتها الموشّحة بتعاطفها مع معاناة الجماعة، كما في قصيدة “الكوليرا”. ولكنّ ريادة الملائكة الشعرية تقوم أيضًا، بحسب الكاتب، على إسهامها النقدي البارز، عبر كتابها النقدي “قضايا الشعر المعاصر”. وفي الختام، يرسم بإيجاز شديد مراحل كتابتها الشعرية وخياراتها النظمية انسجامًا مع تحوّلاتها النفسية وتجربتها الجمالية.
أما المقالة التي خصّها الكاتب بالشاعر أدونيس، وكانت بعنوان “الشعر تسميةٌ للأشياء ومشروع لتغيير العالم”، فقد استهلّها بقصيدة كتبت أواسط السبعينيات من القرن الفائت:
“ويقولون: هذا غموضُ/ ويقولون:غيبٌ/ غيّبي كلماتي/ غيّبي خطواتي/ واجمحي وخذيني/ أيها الشهوةُ الملَكية / إن رأيتَ على مدخل الجامعه/ نجمةً، خذْ يديْها/ إنْ رأيتِ على مدخل الجامعه/ كوكبًا عانقيه..”
قصيدة هي الشاهد الأكثر تعبيرًا، بحسب الكاتب، عن “التجربة الشعرية الأدونيسية” القائمة على الثنائيات الضدية، وعلى الأبعاد التراثية والفكرية الكثيرة التي سبق له الكشف عنها مجملةً في أطروحته النقدية الأثيرة “الثابت والمتحوّل”. ولم يكن انتماء أدونيس الى مجلّة “شعر” لمؤسسها يوسف الخال، بعد انتمائه الى الحزب السوري القومي، وتلقّبه بأحد أبطال الأساطير الفينيقية (أدونيس)، سوى تعبير عن توق الشاعر الى خوض مغامرة إبداعية، تكون مفارقة للاتجاه الشعري التقليدي، وصانعة رؤيا وأساليب وظواهر شعرية لا تزال موضع الدرس والاقتداء من كثيرين.
في المقالة الخاصة بالشاعر يوسف الخال، والمعتبر بنظر الكاتب “بطريرك الحداثة الذي اصطدم بجدار اللغة”، وصف لمأثرته الكبرى الماثلة في تأسيسه مجلّة “شعر”، راعية “قصيدة النثر، والحاضنة الشرعية لمشروع الحداثة الثانية التي تبلورت معالمها في بيروت” (ص:183)، وتعداد لصفاته التي أهّلته لقيادة جماعة بل نخبة من المبدعين، شعراء ونقادًا وفنانين وفلاسفة ومترجمين وروائيين، من سوريا ولبنان ومصر والعراق وفلسطين ومصر والسودان والخليج العربي، ومن سائر بلدان العالم الأنكلوفوني والفرنكوفوني، واعتباره مثقّفًا تنويريا ومترجمًا وناقدًا ومنظّرا رؤيويا ومروّجًا للفن المعاصر، في آن معا .
بطبيعة الحال، لم يتسنّ للكاتب شوقي بزيع تعليل وجهة نظر الخال بشأن مأزقه حيال اللغة وصراع المحكية مع الفصحى، ولا كيف استدار حولها أنسي الحاج، وأبدع شروطًا جديدة للكتابة بقصيدة النثر لم تكن موجودة، وإنما حسبه أنه وضع نقاطً علاّم للحداثة الشعرية العربية التي يجدر بحثها وتعميقها لاحقا، عند الشاعرين وزملائهما الآخرين.