ورد الكلام – الحلقة 3 ( خاص لموقع ” ميزان الزمان ” )
الشاعرة سارة الزبن ضيفة الحلقة 3 من ” ورد الكلام ” مع الإعلامية كلود صوما
-×-×-×-×-×-
.. بعد أن غَرقتْ في صفحات من السرد الرشيق والمكثّف والحبك المتماسك في أعمالها الروائية ، انعطفتْ نحو الشعر وعشقت أشكاله ،صارت تتنفس أريجه كل يومٍ فـأنجبت مولودَها الشعري الأول وتمنّت أن يرافقها حتى آخر رمقٍ من حياتها ، “حتى مطلع الشعر” !
هي ابنةُ الشمسِ ” والأرضِ التي وَلدتْ من خَصرِها لغةً فوق الكناياتِ “
هي شاعرة رقيقة مفعمة بالأحاسيس المرهفة والمشاعر ، تمتطي أعالي الورق لتسّدَّ جوعه من مداد الروح بشذرات شعريةٍ راقيةٍ وصُور مبدعةٍ ناعمة كهمسات العاشقات !
أصدرت مؤخرًا كتابها الجديد ” العَرّاف ” وهو دراسة نقدية في شعر الشاعر عصام العبد الله، في مقدمته دراسةحول نشأة الشعر المحكي وتطوّره ، وذلك بهدف تسليط الضوء على الشعراء اللبنانيين وبصمتِهم في إثراء المكتبة العربية.
بِلغة الورودِ وعطرها ، كان اللقاء مع الشاعرة سارة بشار الزين ، وقد جاءت تحمل الوردَ وتترنحُ بِلُطفها ، مع ابتسامتها الدافئة التي تمدّك بجرعةٍ إضافيةٍ من السعادة والسلام ..
في لقائنا مع الشاعرة سارة الزين بادرناها الى السؤال التقليدي الأول :
سارة الزين من أنت ؟
– من أنا؟! أخاف من هذا السؤال، أخاف أن تقتلني الإجابة، أن تحاصرني الكلمات وتخنقني في ردٍّ مقتضبّ، فأتأطّر حدّ الغرق من دون يدٍ تنتشلني من طوفان التعريفات!
أكاد لا أعرفني، وأكتشفني في كلّ مرّة أحاول فيها فكّ الحروف حين تتسرّب من شفة اللغة بانزياحٍ شقيّ…
ما أعرفه أنّ سارة الزين لا تشبه نفسها، تغيظني كلّما تكرّرت في الشكل أو المضمون، لذلك أرفضها كلما جاءتني بلباسٍ قديم أو هزيل! حتى فساتينها الجميلة ما عادت تعجبني، أحتاج أن أرمي خزانتها كاملةً لأُشكّلها من جديد، فهي ندّي الوحيد!
_بعد كتابة الرواية انتقلت سارة الزين الى الشعر وليس العكس كما يفعل الأدباء عادةً ، كيف تفسرين ذلك ؟ وأين تجدين نفسك أكثر ، في الرواية أم في الشعر ؟
٢- الشعر كان يحاصرني منذ البداية، هناك من حال بيني وبين تفجيره إلى الخارج، الشعر طفلي الذي أخفيت حمله عن أعين الناس، كنت أخبئه فيّ مخافةَ أن تنتشله منّي أيدي الأقدار، غير أنّه كان قدري، وبعد أن غفى ثلاثين حولًا في أحشائي، صرخ صرخته الأولى بين يديّ وما استطعت أن أكتم صرخته!
الرواية شعر! والموسيقى شعر، وكلّ إحساس باللذة هو شعر، الوجود كلّه يضجّ بالشعر، الحزن والعوَز، والفقر والموت والدمع والرقص والأرق… كلّ هذا شعر كثير يتجلّى بمظاهر مختلفة غير أنّ الهلاك واحد!
_ قد يعترف الشاعر بمكابدة ذاتية ووجودية أتناء كتابة نصوصه وقد تتحرك خوالجه لتولدَ القصيدة بعد معاناةٍ وألمٍ .. ما الذي يدفعك الى الكتابة ؟ وماذا أضفت عليك؟
٣- الكتابة صنعتني.. شكّلتني، وأحيتني بعد أن أماتتني ألفًا، الكتابة أنقذتني من الغرق في الوحدة والعجز والنقص.. أنقذتني من الاستسلام، وعلّمتني أنّ للحروف أرواحًا تعرف كيف تضمّد جراح نازفها، وتتقن لعبة الإغواء، وفي الوقت نفسه تعرف كيف تتحوّل إلى رصاص متفجّر يتشظّى ويخترق جلد الكاتب حدّ الهلاك.
أمّا عن الدافع، فهذا ما لا أعرفه، هو الخوف؟ ربّما! الحاجة؟ ممكن! حبّ الظهور؟ لست أدري! ما أؤمن به هو أنّ الأمر أصعب من قدرتي على استيعابه والإحاطة به، وما أعرفه أنني أتلذذ بسطوة الكتابة وهي تسيّر أصابعي صوب نصٍّ لم يكن منتظرًا.. صوب ولادة قيصريّة مفاجئة! موجعة ولكنّ متعة الوجع فيها تبعث على الإدمان حتى أننا نستعذب الوجع ونطلبه!
_ تكتب سارة الزين باللغة الفصحى ،وتتكلم بها في معظم الأوقات ، كيف نحافظ على لغة الضاد ونحميها ونكّرمها ؟
– الإيمان باللغة هو أوّل سبل النشر! كلّ لغةٍ يشوبها شِرك لا يفلح أهلها في الحفاظ عليها.. والإيمان بها يجعلها لغة عصيّة على الاختراق والاستعمار… لا بدّ أن نعيش اللغة، فاللغة تتشرّب من ملامح أهلها، تعطيهم ويعطونها، تسقيهم ويسقونها، المشكلة في مجتمعاتنا أننا بتنا نتبرّأ من اللغة وننكرها، ونخجل منها! ونربط الثقافة والمثقّفين بمن يتحدّث لغات أجنبية! تبنى الحضارات باللغة وبذائقة الشعوب، فإن لم نرضع اللغة ونتشبّع من حليبها لن نعرف معنى أن يكون لنا لغةٌ أم!
_ تعشقين الشعر الفصيح وتتقنينه ، ولك محاولات في الشعر المحكيّ ، لكن كيف قررتِ أن تصدري كتابًا لتحليل القصائد المحكية و ذلك في كتابك ” العرّاف ” الذي يتضمن دراسة لقصائد الشاعر عصام العبدالله ؟
– لم أقرّر ذلك، الموضوع فرض نفسه عليّ، أهداني الشاعر والصديق ورد العبدالله المجموعة الشعرية لوالده عصام العبد الله من فترة، وأعترف أنني كنت بعيدة من عالم الشعر المحكي وأهله، غير أنّ ما قرأته كان مختلفًا جدًا عن المألوف والسائد، وحاولت أن أكتب مقالة على شاكلة المقالات التي كنت أكتبها سابقًا غير أن المشروع راح يكبر وحده حتى أصبح كتابًا، حتى من بعد انتهائي من الكتابة ذكرت أنني لم أقل كلّ شيء، وما زالت تنتابني رغبة بالإضافة، فعصام العبد الله لم يكن مجرّد أديب ولغويّ وفصيح وناقد وإعلاميّ وصحفي، بل كان شاعرًا بكلّه، بنصّه ونثره وحركاته وسكناته وحياته ومقابلاته وتفاصيله، شعريّته طافحة ومفضوحة، وعينه ثاقبة عرّافة.
كتاب العرّاف يحمل مقدمة حول الشعر المحكي وكذلك دراسة بنيوية وأبستمولوجية لشعر عصام العبد الله غير أنني أدعو الباحثين الى تتبع حرفه من خلال دراسة سيميائية أو أسلوبية، فمجال الغرف من حرف العرّاف واسع وكبير.
_ الى أي حد يستطيع الشاعر أن يجّمل حياتنا الرتيبة اليومية ؟ ولو لمْ تكن سارة الزين شاعرةً ماذا كانت تحّب أن تكون ؟
– الشاعر لا يجمّل الحياة، بل يشقّ نافذةً صوب المجاز والخيال، يصنع ممرًّا هلاميًّا من نبضٍ وضوء، يخترع رقصًا كابوكيًّا فوق حبالٍ شمسيّةٍ عالية تحتمل السقوط المهيب، أو التحليق الحرّ، ينقل الأشياء كما هي ولكن من خلال حساسيته هو، ولغته هو، وخلقِه الجديد لكل ما يدور حوله، فالشاعر لا يتوهّم هذه الإضافات، بل يؤمن بها ويعيشها.
لو لم تكن سارة الزين شاعرة، ما كانت لتكون، ما كانت ستخلق، لا وجود لسارة الزين بعيدًا من الأدب والشعر، حتى رمادُها يتناثر قصيدةً عصيّة على التأويل.
_ هل تحبين التحّدث عن موضوع ما لم أطرحه عليكِ
؟
– أحبّ أن أتحدّث عن “اللا شيء” في حياة الكتّاب والأدباء، فـ”اللا شيء” هو عالم مليء بالأشياء الكثيرة التي يصعب تفسيرها وشرحها ونقلها… “اللا شيء” فيه نومٌ أبيض، فراغٌ أنيق، فلسفة وجودية بعيدة من صخب الحياة وضجيجها، تحيلنا الى عالم النقد الذي أهواه وأحاوله، فالأديب يعيش امتلاءً خانقًا الى حدّ أنه يشتهي “اللا شيء” ويحلم به، ويحلم بالسكينة التي يخفيها في جبّته!
“اللا شيء” هو جنّة الفلاسفة التي يخبئونها عن أعين الأشهاد، ويحلمون بها ليل نهار.. ولا يلقّاها إلا ذو حظٍّ عظيم!
كما تعودنا دائما على حروفها المتألقة … ها هي الرفيعة ذات الاحاسيس المرهفة ترد بإجابات حروفها كأنها خيوط تنسج كلماتها لتحيك قصيدة نثرية وتزيد اللغة جمالا وأصالة.