سلسلة ” إنعكاس ” / الحلقة 5
للكاتبة والشاعرة د. لارا ملّاك
(نصّ “أنا وأنتَ”…ِ من وحي رواية “صيف كلنكسر الأخير” لهيرمان هيسه)
-×-×-×-×-×
مات كلنكسر قبلنا. هذا ما نعرفه، ما قاله لنا المؤلّف.
لنا زمنان، قبل كلنكسر وبعده. قبله كنّا معًا. ونحن نعلم أنّ لا شيء يأتي مرّتين، حتّى النّعاس على وجهنا بعد رحلةٍ متعبةٍ أو بعد شجارٍ مؤلم. لا شيء يتكرّر، قلتُ لكَ ذات يوم. لكنّنا، نكرّر أحبّاءنا، كأنّهم خارج الوهم الكبير، فلا نشدّ على أيديهم بما يكفي.
مات كلنكسر، وسقطْنا عندها أنا وأنتَ خلفَ الصّيف. كأنّ الهواء لا عقارب تحصيه، أو كأنّ لا هواء بيننا. واحدٌ يتنفّس فوق الأرض، وواحدٌ تحتها. حتّى لوحتنا الثّابتة لم تستطع يومًا أن تلتقط الهواء، أن ترسمه. لذلك، ربّما، لم ينجُ، ولم نولدْ من جديد.
ما أشدّ التّلاشي، يقول صدى الرّسّام في النّصّ. وشدّته في إصراره، وفي سرعة عَدوه، فلا تلبث خصلة شعر الجميلة تستقيم حتّى تهبط فوق وجهها، فوق وجهه، أو خلف صيفٍ بلا نسيم.
عاش كلنكسر، احتسينا الخمر، ولم نرحمْ كأسًا واحدةً من بصمات أصابعنا، ومن قلوبنا الّتي غالبًا ما أنفقنا نبضها، غير آبهين. صمَدَتْ كأسٌ واحدةٌ بيننا، تلك الّتي سقطت ولم تشربْها، ولم أسكر بها. تلك الّتي تنازلنا عنها للضّباب.
مات كلنكسر، فاستفقنا. كلٌّ على وسادته يَعدّ الخطى. مسافةٌ هائلةٌ إذًا هو الرّحيل، أو استدارة اللّوحة نحو الجدار حتّى لا نصافح الألوان مجدّدًا، وإن عرفنا أنّها هنا.
هو الاعتذار الّذي تمدّد حتّى شطّ عن أصله الأوّل. هو كلمتُكَ الأخيرةُ الّتي قفزتُ عنها كي أنقذ نفسي، أو أتوهّم ذلك.
رسم كلنكسر فأشعل الشّمس أكثر في الحقول، وأمَرَها بأن تتّقد أكثر كي تزدهر الألوان. قال لها: اركضي ما شئتِ وأنّى أردتِ، لكن تفجّري أكثر، كي تتّسع عيناي. هذا بؤبؤٌ ملوّنٌ، لكنّه أصغر من لونه. قال اتّسعي كي أهاجم لوحتي كأنّني فريسةٌ تدافع عن نفسها في وجه العدم، كأنّني الفراغ يأكل نفسه، يلوّح بسيفه فتكون اتّجاهاتُ المشهد في هذا البياض.
مات كلنكسر، فلم نعدْ نرسم. صرنا نعاتبُ الفخّ الّذي أنجبَنا كي نصطاد بعضنا. صرنا نذكر كيف نتعثّر بشباك بعضنا في الضّوء الخافت، حين لا تقول لنا الشّمس شيئًا، حين لا توحي لنا حتّى بما ينتظرنا. مات، فتوقّفتَ عن رسمي. لم تكتمل اللّوحة. ها أنا الآن في لوحاتِكَ مبتورة اليدين.
زرعَ كلنكسر، صار شعري كستنائيَّ اللّون، صار شتويًّا يغريكَ بلسعة البرد. ينتصب شجرةَ كستناءٍ تحبّ الشّمس والصّحو، تلقي التّحيّة على يدِكَ وهي تقطف عنها كلّ شيءٍ، ولا تترك لغدٍ حبّةً واحدة.
جفّ شتاء كلنكسر، تكاثرت في موقدكَ حبّات كستناءٍ تحترق ولا تشبع. تكاثرتْ حتّى صارت رمادًا يعدّل مزاج الألوان في ظلالك، وأنتَ بتلك البرودة لا تكلّف نفسَكَ عناء فضّ النّار عن أهدابي الّتي لا تولد حتّى تندثر.
قال كلنكسر: نحن الآخرون. فكنتَ أنا، ولم أقاومْ. لعلّ هذا الانصهار وخزٌ، أو ذوبانٌ حرّاق، أو اشتعالٌ زجاجيٌّ يلمع ألوانًا كثيرة. نحن كؤوسٌ تفتح للنّور أظلالها وتتعرّى أمام اللّون، كي يرسمها، كي يرسم جلدها.
سكتَ كلنكسر، كسَّرَنا إزميلٌ عن بعضنا. رحتُ أنفضُ بعض زواياكَ الحادّة عنّي، جرّحتُ يدي.
هكذا أتى انعتاقي، انفرجتْ وحدتي، هكذا فتحتُ نافذتي بيدي، ووقفتُ للهواء بقدمين فقط كأنّني الوجود، أو حرّيّته. هدأت الموسيقى الّتي سمعناها كثيرًا حتّى فقدْنا صوتنا، وانفلتَ من تحتنا الإيقاع، وعاد مسرعًا إلى الوتر، واعتذر.
سكتنا نحن الّذين صرنا تماثيل فاخرةً في ذاكرة كلٍّ منّا. فلم يبقَ من لون شَعري على يدِكَ سوى ظلٍّ خجولٍ، ولم يبقَ من يدِكَ على شَعري إلّا قليلٌ رهنتُهُ للعرّافة ذات يوم.
أكل كلنكسر الفاكهة، والنّساء، وقوس قزح. وتركتْني أشياؤه بين الطّاولة والعتبة، أقفز ولا يراني أحد. النّساء مشمش اللّوحات حين يملّ من تفّاحها. المشمش صيفيٌّ لاهٍ، لكنّه لا يموتُ ولا يُهمَل. موشّحٌ يذكّر الوجنتين بالمرآة، ويذكّر الشّعرَ بهدير القافية حين يبعثرها الحمام مستعجلًا إلى أحضاني. المشمشُ ضحكةُ قوس قزحٍ حين تنسلّ الشّفاه بين المياه والضّوء خلسةً، وترخي بجلدها على الجسد. أكل كلنكسر قوس قزح وترك للطّاووس لونًا واحدًا. وترك لنا ظلّ المنكب على الجسد حين تجرّب اللّغة تعاليها.
أكل كلنكسر، وترك الكأس مترعةً بوحدتها. تركها، ولو مرّةً تشربُ نفسها هانئةً، لتعلم كيف نحبّها، ومتى نُرمى منها بلا روحٍ، أو بجميع أرواحنا.
أكل كلنكسر جسمه كلّه، ولم يتركْ منه ولو فتاتًا. كخبزٍ نُسي في الفرن، حتّى اتّصل ليله بنهاره من وهج النّار، من وجه الرّماد الّذي لا ينفكّ يحترق كأنّه آنُ الأشياءِ كلّها. خارج الفرن عتمةٌ تتلاحق. هذا سوادٌ ما خرج عن اللّوحة، ما خرج عن العين.
طبخ كلنكسر الخلخالَ الّذي بادلْتَني من أجله الحبّ، وقدّمه لعشيقته. نمتُ بلا رنّة خلخالي مرتاحةَ الماضي، كأنّ الزّمن ينفتح ويتكسّر كلّما مررْنا، لكنّه مستقيمٌ لا يفاوض، هو يعلم مثلي أنّ ما مضى قد مضى.
لوحتُكَ يا إنسانُ بلا هامشٍ، لكنّ لها كرسيّ استراحةٍ من الضّوء أو من البصر. حين نرخي لحم الوجود حتّى يسيل. في الصّباح، ذهابًا وإيابًا يرميكَ الكرسيّ على أقدامه، ليصير لكَ أقدام.
ترمي عينيكَ من النّافذة تقلق الألوان. كيف لنبعٍ ألّا يضيء؟ أو لحجرٍ ألّا يكون دافئًا وإن في كانون؟ وكيف لظلٍّ أن يكون بلا ظلّ؟
بنى كلنكسر ظلالًا كثيرةً حين كان ينام. الفنّ بديلٌ مؤلمٌ، أم ألم الصّورة الأصل. هو صرخة المشهد الّذي لا يقول نفسه إلّا نادرًا، فنواسيه بظلّه، بظلّنا، بتوازي الغائرين والعائدين.
خدعَنا النّاسُ لأنّهم ظلٌّ عن أصل. لكن كلنكسر لا يهتمّ، وأنتَ أيضًا لا مبالاة الشّيطان. ماذا لو كان إبليسُ لوحةً وأنت ظلّها؟ أو كان الملاك ضوءًا وأنت تواربه، وتبني له أشياءَكَ انعكاساتٍ لا تليق بجناحيه؟
أين الفراغ إن لم يكن بين الكلمات؟ وأين الكلمات من الفراغ؟
لم يُجِبْ كلنكسر، بل تمدّد مثلك مع النّساء على العشب وأقنع نفسه بأنّه أخضر، وبأنّ السّماء ليست هنا. استهلك العشبُ كلَّ شيءٍ، الماءَ، والقصيدةَ، والانسياب، وتخلّى عن القبلات.
الشّفاهُ لا تكفي للزّرع. قد تفتحُ جسدًا، وقد تجد له الغلال والمفتاح، وقد تطبع بصمتها، وقد تسكتُ، وقد تصمت. إنّ الشّفاه ليست خوفًا، وإن كانت تخاف. هي بورتريه الوجود في أعقد مواسمه، وأكثرها انكماشًا وتجعّدًا. تترهّل الشّفاه إلى الدّاخل حين تخطئ السّنبلةُ القبلةَ، أو حين تخطئ القبلةُ الجسدَ.
كنّا معًا، جلسْنا بلا وزنٍ حتّى اعتذر المدى. اجتمعنا على الأرجوان، افترقنا برضا البنفسج، قسنا بأجسادنا خصوبة الغيمة.
مات كلنكسر، عاش كلنكسر. أنا وأنتَ لم نولدْ بعد.