قراءة نقديّة في مجموعة حميد عقبي القصصيّة “كارمن”
بقلم د. دورين نصر
-×-×-×-×-×-×-
ارتأريتُ قبل أن أبدأ بعرض تجربة حميد عقبي القصصيّة، أن أسلّط الضوء على هذا النوع الأدبي بالاستناد إلى رأي الكاتبة سوزان لوهافر التي اعتبرت بأنّ القصّة مصنوعة من مادّة الحياة، وهي بحدّ ذاتها مركزيّة للتجربة الإنسانيّة. ورغم أنّها لم تتوصّل إلى تعريف جامع وشامل لهذا النّمط من الإبداع، إلاّ أنّها طرحت سؤالاً جوهريًّا: أين ومتى تبدأ القصّة في التبلور؟
في الواقع، مع حميد عقبي نشعر بأنّنا لسنا أمام المألوف من القصص، إذ يتهيّأ للمتلقّي بأنّه أمام جماليّات المحكي البصري. ما يدفعنا إلى العودة والبحث في عمليّة الانفتاح السينمائي على إبداعيّة القصص القصيرة. فنحن ندرك جيّدًا أنّه تمّ الارتهان إلى التجربة القصصيّة كونِها مادّة إيحائيّة وإيهاميّة في خلفيّتها البصريّة. ولم يقف الانفتاح السينمائي على إبداعيّة القصص القصيرة في طور البدايات فحسب، بل تواصل وِفق تحوّلات جماليّة شهدها المنجز السينمائي منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وقد تضاعفت الانزياحات الفنيّة مع بداية الألفيّة الثالثة، وصولاً إلى اللّحظة الراهنة. والواقع إنّ جولة في تاريخ العلاقة بين السينما والقصّة القصيرة، تجعلنا نقف عند أهمّ التجارب اللّامعة في هذا الإطار، نذكر منها قصّة “أنابيل” (لإدغار ألن بو) التي حوّلها المخرج “دافيد وورك غريفيت” David Work Griffith إلى فيلم سينمائي سنة 1914 بعنوان انتقام الضمير، وقصّة “امرأة طيّبة” لدوستويفسكي، أخرجها ألكسندر بوريسوف Aleksandr Borisov سنة 1960، وغيرها من الأمثلة العديدة ،لا يتّسع المجال لذكرها. ما يدفعنا إلى النظر بالعلاقة الشديدة بين عالم الواقع والعالم الافتراضي.
في هذه الأجواء، نلاحظ بأنّ أحداث القصّة عند المخرج حميد عقبي لا تمضي بالطريقة التقليديّة. فقصّة الذبابة وهي القصّة الأولى من المجموعة، يشارك فيها القارئ الراوي مشهد التحديق بالكأس، وقطعة الثلج التي تذوب ببطء، كذلك مشهد السيجارة التي تحترق، فيضغط عليها في الصحن الأخضر على الطاولة، متلذّذًا بنهايتها.و تتوالى الأفعال المضارعة في النّصّ “يتلذّذ، يظلّ، يضَعُها بهدوء، يرمق، تثيره، يظلُّ مستمرًّا… يُشعل سيجارته الأخيرة، يعيش كلّ نفس، يأخذ نفسًا، ينفث الدّخان وغيرها الكثير”.
إنّ توظيف الكاتب لهذه الأفعال يُعطي دلالة على استمراريّة فعل الترقّب والانتظار. وذلك لأنّ الأفعال المضارعة المتواترة في هذه الأمثلة، تنقل ديناميّة الأحداث إلى المتلقّي كونِها تملِك القدرة على ردف الحدث بحريّة الحركة والانطلاق واستيعاب الموضوع وبعثه من جديد، ما يحيلنا إلى تودوروف، الذي اعتبر بأنّ الشخصيّة اسم والحدث فعل.
إنّ الحدث المتجسّد في تواتر الفعل المضارع يعتبر أساسًا في بناء القصّة عند حميد عقبي، إذ يتطوّر في قصّة الذبابة، فيساهم توالي الأفعال المضارعة في تنامي الحدث لنصل إلى نهاية الكائنات العبثيّة: الذبابة الثملة تعلق بخيوط العنكبوت.
أمّا قصّة “كارمن” فتنقلنا إلى مشهد اللّقاء بينها وبين البطل في المقهى. في الواقع، لو احتكمنا إلى القيمة الفنيّة لمجمل الأحداث في هذه القصّة لتبيّنا فرادة أسلوبها ومغامرتها التجريبيّة وخروجها عن المألوف بجمعها بين السينما والمسرح. يصوّر الكاتب بِعَدَستِه مشهد اللّقاء الذي يقسّمه إلى عدّة فصول. الفصل الأوّل ويتمثّل بشرب البيرة والمسامرة، المشهد الثاني ويتمثّل بتدخين سيجارة حشيش. وهذه السيجارة أدّت دورًا بارزًا إذ غيّرت مسار الأحداث وانعكست سلبًا على اللّقاء بينهما في صالة السينما.. المشهد الثالث تمثّل بمطعم الوجبات السريعة، المشهد الرابع: حين عرض عليها إيصالها إلى سكنها. وقد فعّل الحوار الذي دار بينهما مسار تطوّر الأحداث وصولاً إلى المشهد الماقبل الأخير وهو الانسحاب والعودة إلى منزله. وانتهت القصّة برؤيته كارمن في حضن شاب آخر، بنفس الطريقة العبثيّة التي تقود قوى الأحداث ومغامرات الأشخاص إلى نهاية منزاحة عن المسار الطبيعي لتسلسل الأحداث.
يتجلّى النزاع في هذه القصّة بين الرغبة والامتناع عن تحقيقها، فتتعاقب الأحداث في النّصّ من دون توقّف، وتتراوح الانفعالات بين الصاعدة (أي الاتساع) والانفعالات الهابطة (أي الانحسار). ويحدّد هذا التعاقب الوجدانيّ الإيقاع العاطفيّ على مستوى مقاطع النّصّ الكبرى والصغرى، فيشعر القارئ بأنّ النزاع عبارة عن نشوة عراكيّة دراماتيكيّة إذ انتهت القصّة بوضع حدّ لعلاقة الحبّ مع كارمن إثر وجودها في حضن شاب آخر.
هكذا نجح الكاتب في خلق متعة بصريّة عند المتلقّي، فضلاً عن متعته التي تجلّت وهو يحفر في الطبقات الداخليّة للذات الإنسانيّة، يسبر مناطق الجنون ذات الغور السحيق.
كما وتتجلّى براعة حميد عقبي على الصعيد الفنّي خاصّةً في نصّ “رسالة”، فببراعة عالية ينتقل بالضمير من الغيبة إلى الخطاب؛ ومن الخطاب إلى المتكلّم، ليعود إلى الغيبة.
ونصغي مجدّدًا إلى صوت الراوي الغائب في خاتمة الرسالة، فالمتكلّم من خلال توظيفه لحركة الضمير في النّصّ، ومن خلال التلاعب بمستويات الخطاب جعل من ذلك أداة تتحكّم بطاقات النّصّ التعبيريّة، وأكّد بذلك تجربتة الشعوريّة التي تأرجحت بين اليأس والأمل.
ويفجؤنا في نهاية الرسالة إذ يقول: وضع القلم… حاول توقيع رسالته، اندلق قدح النبيذ الأحمر، ظلّت الكلمات تسبح في ضوءٍ مرعب، هو أيضًا يشعر بالعجز وفقدان الجاذبيّة. هذه الخاتمة أسهمت في تكوين دلالة النّصّ، إذ أعطته بُعدًا جماليًّا تتّسق فيه الجمل والعبارات، وتترتّب وفق نمطيّة خاصّة تُكسب النّصّ بناءً مميّزًا. فاختلاف مرجع الضمير أدّى إلى لعبة الضمائر هذه التي لاحظناها في كلّ النّصّ. ما أسهم في إثارة تشوّق المتلقّي إذ أخرجه عن السير في نمط واحد من أنماط التعبير.
وتأتي قصّة “حالة” لترسم عندنا حالة من الدهشة إذ نشعر بأنّنا أمام ومضة شعريّة:” يقهقه البرد، يعلو ضجيج الصمت، الفراغ يترنّح في الشوارع”. وقد أراد الكاتب أن يسلّط الضوء على الفراغ لأنّه في ذهن المتكلّم أهمّ من الفعل. وبعد توالي هذه الأفعال مع ضمير الغائب، نتفاجأ بضمير المتكلّم المتّصل بالمبتدأ: “يدي”. وحركة ارتجافة اليد لتلتقط كأس النبيذ. وتجدر الإشارة بأنّ كأس النبيذ هو الكلمة الموضوع المتواترة في كلّ القصص.
وبالانتقال إلى قصّة “ليلة مخيفة”، نشعر بـأنّ الكاميرا تسير بنا من الخارج: “السطح”، ثمّ سقف الغرفة الذي يهتزّ، ثمّ حركة النوافذ والأبواب وكأنّ هناك من يركلها، وتنتقل حالة الرعب من الخارج إلى الداخل إذ تصرخ الطفلة: “أشباح”. وتدهشنا هذه القصّة بتوزيعها الطباعي إذ تفصل النقاط بين المقطعين الأوّل والثاني.
ويصوّر المقطع الثاني حالة الظلام الدامس وبرودة الجوّ، فيأتي الإعلان الذي يقدّمه التلفاز بأنّها ستكون ليلة عاصفة.
لقد نجح حميد عقبي في هذه القصّة في نقل المؤثّرات الصوتيّة والبصريّة إلى أعماقنا، فعشنا معه حالة الرعب والهلع. هكذا بدا المشهد الكتابي ناطقًا بالمؤثّرات الخارجيّة التي تحيق به.
ولو تتبّعنا مسار القصص عند حميد عقبي، لوجدنا بأنّ الفكرة أو الخطّة تتطوّر في المعالجة، إذ يصف الأحداث بلغة سهلة خالية من الاصطلاحات، بحيث يبدأ التشويق. وتستطرد الأحداث منطقيًّا بحيث يزداد الاهتمام الدرامي باستمرار، وتصل إلى المنتصف المدروس بعناية، ومن هنا تأخذ في الصعود تجاه الذروة، التي تعلو كلّ ما سبقها. وقد اعتمد السيناريو عند الكاتب على الحركة، بما يُسمّى اللّقطة السينمائيّة. كما تتكوّن القصّة عنده من العديد من المشاهد، كما يتكوّن المشهد من العديد من اللّقطات.
والّلافت للنظر بأنّ القصّة عنده هي حكاية أحداث مرتّبة في تتبّعها الزمني، والأحداث في القصص لم تكن عابرة أو عشوائيّة، بل لاحظنا بأنّ لكلّ فعل وظيفتُه في النّصّ، والأحداث تتّصل عضويًّا ببعضها البعض بعلاقة السببيّة أو برباط الفكر.
وإذا اعتبر تودوروف بأنّ المهمّ، عند مستوى السرد، ليس ما يُروى من أحداث، بل المهمّ هو طريق الراوي في إطلاعنا عليها، فإنّ حميد عقبي جعل كلّ قصّة فريدة من نوعها على مستوى السرد، وتمكّن من الانتقال بالمتلقّي من مرحلة الإحساس إلى مرحلة المتفرّج المشارك في الأحداث، كونه استخدم عنصر المفاجأة ووسائل التشويق لجذب الانتباه. فشعر القارئ بمعرفة عميقة بالشخصيّات والأحداث الذين غدوا جزءًا حاضرًا في أوقات القراءة وفي الحياة اليوميّة كمعارف، أصحاب، أصدقاء أو حتّى أعداء.