جيش الرثة
بعيد الثورة الفرنسية بزمن قليل، سعت القوات النمساوية في أواخر القرن الثامن عشر، تعاونها وتؤازرها وتعضددها وتساندها، وتشاركها في المهام والأهداف والغايات، قوات بروسية عظيمة، لإخماد الثورة الفرنسية والقضاء عليها في مهدها.
كان الجيش الفرنسي، في أسوأ أحواله المادية، بسبب الحصارات التي كانت مفروضة على فرنسا من غير جهة من الجهات الأوروبية. غير أن ذلك لم يفت من عضد ومن عزيمة الجيش الفرنسي الذي كان فقير الحال.
كان إذا، أن نهض قائد الجيش الفرنسي في ذلك الوقت، الجنرال “ديمورييه”، لتأهيل جيش بلاده، وليجعله في مقدوره، أن يدافع عن شرف الثورة الفرنسية، وعن سيادة وكرامة فرنسا، ولو”بأثمال بالية”، ويحصنه من الحصار الطويل الذي نال من عدته ومن عتاده.
كانت موقعة “فالمي – Valmy” التاريخية. خير إمتحان لهذة الحصانة وهذا التحصين الذي أشرف عليه الجنرال ديمورييه بنفسه. حيث أوقع ما عرف يوم ذاك ب “جيش الرثة” الفرنسي، -وهو اللقب الذي لقب به- بالمعتدين النمساويين والبروسيين، وحلفائهم من جنود المرتزقة في جوارهم الأوروبي، وهزمهم شر هزيمة.
وقع ذلك حقا، في خريف1792. وإنتصرت فرنسا، على أعظم القوى المجتمعة عليها في ذلك الحين. ما جعل هذة الموقعة التاريخية الصغيرة، مصدر فزع لأوروبا كلها. وذالك لأنها حالت، من خلال صمود “جيش الرثة” وخطة قائده الحصيف الجنرال ديمورييه، دون سقوط باريس. وحمى كذلك الثورة وأفكارها النورانية الجديدة. دون أن تؤثر أثمال الجيش الفقير، على معنوياته العالية، على الإطلاق.
شكل ذلك حقا، شرفا عظيما لجيش الرثة، وقائده الفذ الجنرال ديمورييه. وذلك أنه سجل أعظم إنتصار، على أعتى القوى الأوروبية آنذاك، على الرغم مما كان عليه الجيش الفرنسي وفرنسا عموما، من فقر شديد، وعلى الرغم من قلة العدة والعتاد ورثاثتها على حد سواء، كما كان يقال في ذلك الزمان.
يعاني الجيش اللبناني اليوم، وسائر الأجهزة العسكرية اللبنانية الأخرى، من الحصارات المشابهة التي حصلت للجيش الفرنسي، في القرن الثامن عشر، لجهة أحواله المادية والمعنوية الكثيرة التي أصابت البلاد. فقد أضرت الأحداث الجسام الذي شهدها لبنان، بأفراده وأضرت بعديده وبعتاده. وذلك بسبب تقلص النفقات التشغيلية والخدماتية واللوجيستية. وبسبب إفتقار قطاعاته كلها، للأموال التي تصون التجهيزات، وتمنحه قدرة لشراء الحاجيات. وهذا ما كان أثر على حياة رجاله، في أسرهم وعيالهم في الآونة الأخيرة. خصوصا، أن الوظيفة العسكرية، كما هو معلوم، ليست كغيرها من الوظائف المدنية. فلا يستطيع أهل السلك العسكري، بكافة رتبهم، أن يزاولوا أية مهنة رديفة، تعوض عليهم، ما خسروه من رواتبهم، بعدما تراجعت قيمتها الشرائية إلى أدنى المستويات.
فالسلك العسكري، وخصوصا منه قطاعه بل جسمه الأكبر، وهو الجيش اللبناني، إنما ينهض منذ بداية الربيع العربي، أو قبل ذلك التاريخ بأعوام، بالمهمات الوطنية الجسام. إن في الداخل اللبناني، أو على الحدود كافة: البحرية والبرية. يواجه التحديات وجميت أشكال التعديات، ب”اللحم الحي”، أو بالحد الأدنى من أسباب الحياة.
فنحن نرى أفراد الجيش اللبناني، بعد الأزمة المالية التي نعيشها، يدورون الزوايا، في معاشهم ومعاش أهلهم وأسرهم، حتى تمر الأزمة دون أن تؤثر على معنوياتهم. فيشدون الخناق في نفقاتهم اليومية، دون أن يصدر عنهم أي صوت حتى اليوم، في فقر. وفي جوع. وفي بؤس. وفي تجويع. ودون أن يعكس ذلك أية نأمة، في إلتزامهم بحياة الجندية الشاقة، التي قامت وتقوم على التضحيات، لأجل المحافظة على البلاد.
الموظفون المدنيون، يتغيبون عن وظائفهم. يغيبون اليوم بعد اليوم والأسبوع بعد الأسبوع. والشهر بعد الشهر، ولا يحضرون إلا لتسجيل حضورهم، وقبض رواتبهم في نهاية الشهر. بخلاف العسكريين، في الجيش على وجه الخصوص. لأن حال البلاد، فرضت عليهم جهوزية كاملة، للحفاظ على أمن الوطن، وللحفاظ على شرف الحدود، وصونها من كل خرق وتهريب وإخلال وإعتداء.
أفراد السلك العسكري، وخصوصا منهم جنود ورتباء وضباط الجيش اللبناني، يحافظون على شعارهم: “شرف- تضحية- وفاء”. على الرغم من كل الظروف الصعبة التي التي تمر بها البلاد. فنحن نراهمهم على جهوزية تامة، أمام كل واجب وطني يطلب منهم. دون أن يؤثر في معنوياتهم، ضيق الحال، الذي يشد الخناق عليهم وعلى عيالهم. لا يلتفتون إلى ما يؤلمهم بصورة يومية، كغيرهم من المواطنين، أمام المصارف وأمام البنوك.
ترى أفراد الجيش اللبناني يعضون على جروحهم، ولا تبدر منهم صرخة المواطن العادي، أنهم لا يصلون إلى ودائعهم. وإذا ما قام المواطنون بالتصرف أمام البنوك بالإضراب والتظاهر والشغب، وإطلاق الشعارات المنددة بسرقة أموال المودعين، لفك ودائعهم والوصول إليها، ضمن القوانين، نجد الجنود، وقد ضربوا طوقا متعاطفا حول المتظاهرين، وحموا المصارف والبنوك، لحفظ السلم والسلام والأمن والأمان. ضمن خطة الحكومة أو الدولة الغائبة عن دورها، لا يشذون عنها قيد أنملة.
الجنود اللبنانيون، ينفذون مهامهم المطلوبة منهم بكل دقة، وهم يحبسون الدموع في مآقيهم. دموع العطف والتعاطف مع الناس، وخصوصا مع صغار المودعين أمثالهم. لأنهم مثلهم، يعيشون كل لحظة ألم الجوع والتجويع، والظلم الفظيع، من خلال الفساد، وهدر اللصوص في الإدارات والوزارات للمال العام.
ليس للبنان في النهاية غير هذا الجيش اللبناني اليتيم إلا من أبنائه الشرفاء، لحمايته من إعتداء المعتدين. هو حصنه الأول والأخير. هو الدراع الواقية له من كل تهديد ومن كل وعيد. ومن كل تهويل، ومن كل سخرية تطاله ولو من بعيد.
واكب الجيش اللبناني، “ثورة17-ت1” منذ إنطلاقتها في العام2018. حماها في ساحاتها كلها. وحمى لبنان كله من خلال حمايته لها. خرج إلى الجرود. وقاد هناك معارك الدفاع عن لبنان، وعن إرادة اللبنانيين وعن حريتهم، وعن أمنهم وسلامتهم، حتى “فجر الجرود”. وهو اليوم يحفظ التوازن الوطني في طول البلاد وعرضها. فيحفظ الكرامات ويصونها من تعديات المعتدين والمتهورين والمتآمرين عليها، من أهل الداخل، و من القوى المستجرة إليه من خارج البلاد.
ليس أمام الجيش اللبناني اليوم للأسف، في واقعه، وفي واقع أحواله كلها، إلا أن يتمثل بكل ألم وبكل تألم، “جيش الرثة” الفرنسي، الذي صان بلاده في زمن الشدة، للإنقضاض على الثورة الفرنسية وخنقها في مهادها.
فهو على الرغم من ظروف عديدة، قادت وتقود البلاد كلها، إلى الحصار والتجويع، وإلى إستلاب أمواله وأموال الشعب وأموال المودعين. وعلى الرغم من عصر نفقاته، حتى حدودها الدنيا، فهو لا يزال الدرع الواقية، لحفظ لبنان، والحفاظ على ثورته الأخيرة التي إنطلقت من رحم الشعب اللبناني، أمام الهجمات العديدة والمبرمجة، التي تطالها، من أهل الداخل ومن جميع القوى التي تخرج من جحور الظلام، في الداخل والخارج.
إن حصار الجيش اللبناني وتجويعه، أخذه قائده الجنرال جوزيف عون بصدره. أدرك أن الجيش، هو الجدار الأخير، لحفظ البلاد. وأدرك أيضا وأيضا، معنى الحصار والتجويع، وتقليص الموازنة، وتقليص الخدمات. فإنبرى بكل ما أوتي من عزيمة، يستعين بالصداقات، لتمويل جيش لبنان، الذي بات مثل “جيش الرثة” الفرنسي، يعيش أسوأ الأحوال، في عوزه المالي. ومثله أيضا يعيش هاجس الحفاظ على الثورة، خصوصا قبيل الإنتخابات النيابية الموعودة في مطلع العام الجديد. ويحميها من أي إعتداء ويحمي الإنتخابات. وذلك بأن تجري في موعدها، بلا خوف وبلا تردد، ودون أدنى تفكير بالتأجيل. خصوصا أن الإنتخابات النيابية، يترتب عليها، إعادة النظر بترتيب البيت اللبناني، وصونه من أي تهديد كياني. والحفاظ عليه من رياح المنطقة التي تؤثر سلبا على حياة لبنان واللبنانيين. وذلك من خلال سد جميع الفجوات في جدرانه، ومن خلال تحصين الحدود، من أي خطر أو إعتداء.
فالجيش اللبناني، يجب أن يكون في أعلى جهوزية. وفي أعلى الشروط المادية والمعنوية. بحيث يستطيع أفراده في كافة القطاعات، من أنفار ورتباء وضباط، أن يؤمنوا على حياتهم وحياة عوائلهم، فلا يكونوا يعملون تحت وطأة الإفتقار لأدنى دراجات العيش الكريم.
“جيش الرثة” كما يصور لنا اليوم، وفي القلب غصة، إنما هو جيش البطولات والإنتصارات الآتية. يرعاه ويسهر عليه، العماد جوزيف عون. وهو نافذ البصر والبصيرة، بأحوال الجيش وبأحوال البلاد. هو أيضا نافذ البصر والبصيرة فيما يتربص بلبنان، قبل موسم الإنتخابات. وقبل موعد سائر الإستحقاقات. ولهذا نراه يصل ليله بنهاره متفقدا أحوال الجيش عدة وعتادا وعديدا. يحمل هم أفراده على ظهره، ليؤمن لهم حصانتهم، من خلال تأمين العيش اللائق والكريم لهم.
الجيش اللبناني اليوم في أمس الحاجة لإلتفاتة قائده إليه، لصيانة البنيان، وأيضا، لصيانة الكيان!