آنية الوقت
يتسع الوقت في آنيته كثيرا، أكثر مما يتصور الناس.
مهما كان الوقت كثيفا. مهما كان طويلا. مهما كان يحمل الوقت على ظهره من أحداث تافهة. أو من أحداث جسام. من تفاصيل عريضة، أو من تفاصيل صغيرة. مهما كان الوقت معبأ بالسنوات وبالحقبات. فإن الآنية تتسع له.
مهما كان الوقت معبأ بالناس وبالأشخاص. مهما كان يضيق بالسهرات، وبالليالي وبالنهارات، وبالذكريات. مهما كان يضيق بأهله، ويشعر بإزدحامهم، وبأتعابهم وأحلامهم. وأحزانهم وأفراحهم على بابه، فإن إناءه يتسع له
مهما كان الوقت واسع الصدر ، عريضه، أكثر من أكثر من عريض صحراء، فإن إناءه يتسع له.
لكل هؤلاء. لكل من غشاهم الوقت ودخلوا تحت عباءته: ترى الوقت، حين يتفتح في آنيته، يتفتح في عينيك تفتح حقل من الورد.
أنت ترى الوقت في آنيته، تفتح مساكب من الورد، تفتح شباك من الورد. تفتح غرفة بالورد. تفتح حائط، عربش عليه الورد. تفتح خزانة إمتلات بالورد. تفتح صالة، مكتبة، أدراج.
ترى الوقت في آنيته، تفتح سلم. تفتح مصعد، تفتح مدخل، أبواب. تفتح أريكة، مقعد، طاولة ، مكتب، دفتر كتاب، قلم، مقلمة، ورقة منسية، سطر لم يكتمل بعد. تفتح غفلة، بالورد.
ترى الوقت في آنيته، تفتح صورة، حملت الورد وصارت تكبر معه، خارج الإناء. خارج المكان. تفسح للوقت أن يتموضع، أن يفتح صدره، يخرج من صندوقه الورد: وردة وردة، يعدها عليك: واحدة، بعد واحدة، وأنت مندهش، لهذا الحشد من الوقت، ينزل في آنيته الصغيرة.
ترى آنية الوقت الصغيرة، تتسع له على ضيقها. على ضيق مربعها. لأنها لم تعد دارة صغيرة. صارت دارة عظيمة. صارت قلعة. صارت من السرايات. قرية. مدينة. صارت عيدا. محفلا. صارت مربعا للوقت.
كنت أختلس النظرات، لآنية الوقت التي فاجأتها، حين وقفت أمامها. حين دخلت ألاعب الوقت، في الصالة. في البهو. في الممر. كنت من فرط الخشية، أجس البلاطات الضاحكة. كانت الأنسام تمر بي. كلها صارت من الماضي: الهواء معتق، ولو أنه جاء للتو الآن، يتنفسني من النافذة. كان يهب إلي، في كل لحظة أشعر فيها بالإختناق. كنت أشعر أنه هواء معتق، له رائحة الخزانة. له رائحة الثياب المعلقة. له رائحة قميص، تركه صدر حنون خلفه، هدية منه للوقت.
كانت الجدران، تعد لي، كل من وضع يده عليها. من لامسها. من لمسها بحنو. من لمسها بعنف. كان السقف يشهق أمامي. تنزل الأنفاس الكثيفة منه، واحدة واحدة. أحصاها جميعا، خارج الوقت. جمعها، وفاجأني بها للتو. صرخت من هول الوقت: مرحبا أيتها الأنفاس المعتقة على جدار الوقت. مرحبا أيتها الأنفاس المعلقة في السقف.
ما كانت المناديل قد نسيت بعد، تجفيف كل الدموع، ما تسنت لها الشمس. ما أذنت لها. ما نسيت تجفيف كل الجروح. ولا تجفيف كل حباب الماء الذي كان يغسل الوجوه في الصباحات بعد النوم.
تفتحت المناديل أمامي. صرت أرى الورد ينمو بسرعة الضوء في بساتينها. كنت أصغي للشهيق وللزفير. لزقزقات العصافير والأطيار. “والأذن تعشق قبل العين، أحيانا”.
كان غبار الآنية، يهمس بلطف: أنه أتى بصحبة الزمن. إنحنيت على الإناء أستنشق غباره. أملأ به صدري. أضعه في منديل جيبي، أخرجه، حين أكون وحيدا، لأشمه، وآخذ منه وقته. ألم أطرافه عن جميع الجدران والرفوف والجوارب والعتبات والشرفات، والياقات المعلقة في خزانته. وأجعل منه طينة مسحورة، أطبع بها جبيني، حين يجيئني رسول النوم.
أول مرة، أشعر أن الغبار من ذهب. كنت أمرر إبهامي عليه بكل رهبة. وكنت أخاف أن أجرحه. لئلا أخسر من الذهب غبار الذهب.
لأول مرة رأيت بأمي عيني الصحون الطائرة. كانت في مهجعها من خزانة المطبخ في البيت. وحولها جميع الأواني. تحتف بها. لا تتركها لثوان. تواسيها، بعد فراقها. برزت عليها بصمات الأعين والأيدي .وبصمات الأنفاس. تعرق صحن منها أخذته بين يدي. فداعبته: حدثته كوجه رأيت في الوجه. رأيت فيه وجه من أحب.
كان ملمس الصحن صعبا علي. لأنه عرس صاحبه. خجلت من نفسي. دمعت عيني. سقطت الدمعة في وسط الصحن بالسر مني. وغالبني البكاء: شم الوقت وشم الورد.
للوقت رائحة، حين يكون من الآنية، يدل على الوقت. تصير جميع الغرف، مقاصير مقاصير، لأقدام ولأذرع ولوجوه ولأنفاس. ترى الوقت وقد خبأ في أثوابه وجوها، خطفت من راحتيه وردة، وطارت بها إلى نورس البحر. خطفت طريقها منه. خاطبت موجة. غابت فيها، غارت معها، خلف زمان الوقت. خلف مكان الوقت.
وقفت اليوم إلى باب الدهشة. في البيت برأس النبع. حركت آلة الزمن. كنت ألتقط حبات قلبي عن بلاطاته. فاجأته للتو. تفاجأ بي حقا، حين وقفت أخرج له من صدري، كل القلوب التي غادرته. رأيت الباب مسحورا بي. مسحورا بهم. رأيت سحر جداره. سحر مفتاحه. سحر المقاعد. سحر الستائر. سحر المناديل. أحصيت دموعها، حين فارقت أحبابها. مسحت من جفني غمامته، وأرسلتها خلف من غادروا الباب. سقط الباب من دهشته. فحدبت عليه أواسيه:
أنا بابك أيها الباب. خذني رهينة الأحباب، حتى يعودوا إليك. خذني رهينة الأحباب، حتى يعودوا إلي.