الجزء – 2 –
من ملحمة ” جفرا ” الشعرية
للشاعرة دوريس علَم خوري
-×-×-×-×-×-
جَفْرا … يا مقلةَ العينِ …
يا قِبلةَ صَلاَتي … ويا حُلْوَ مَوَاويلي
يا حُلْمَ العاشقينَ !
يا وطنَ المَنْفيينَ !
لكِ الحلمُ الذي سرقَ الوسادةَ مِنْ دُموعي
واشرآبَّ على دَواليكِ التي حمَلَتْ عناقيدَ الكُرومِ
عُنقودٌ يَضيءُ دَرْبَكِ يَرُدُّ عنكِ جيشَ الظَّلامِ
دعي عُصْفوري يُغرِدُ فوق حبَّاتِ عيْنيكِ
دَعيني أقطفْ ما أشاءُ
ومِنْ بريقِ عينيكِ تشْتَعِلُ حُروفي
فَيُضِيءُ الكونُ نوراً وآياتٍ سماويةً
جِئْتُكِ بِخاتمِ عهْديَ المُزَرْكشِ بِمُرْجانِ اليمنِ
جِئتُكِ بِشالٍ مِنْ حريرِ الشَّامِ
جَفْرا … هَيِّئي لي قبلةً تشْربُ كلَّ أيامي وتشتَعِلُ
أسْكَرُ … مِنْ خَمْرَةِ عَيْنَيْكِ أُصْبِحُ العربيدَ المُتيَمِ
ومناقيرُ عصافيري توَصْوِصُ… تَحْمي سِياجَ خيمَتِكِ
فيَحْمَرُّ الوتَرُ فوقَ قنْطرَةِ البرْقِ تَلفُ الريحُ قِبلتَها
كيْ أشمَ فيك رائحةَ البحرِ وطحالِبهُ البحريةَ
هل ذهبتْ رائحةَ البحرِ ؟
المُتَمَوِجةُ فوق شطآنِ كنعانَ ؟
دعيني أشمُ رائحةَ زعترِ بلادي ونباتاتِهِ الجَبلِيَّةِ !
هل جبالُ بلادي ما زالتْ شامِخةً تُعانِقُ الريحَ ؟
وتُقبِّلُ صفحةَ السماءِ ؟
هلَ ما زالَ ترابُ بلادي يُدثِّرُ الأهلَ والأحبابَ ؟
والحجارةَ والصخورَ تتعانَقُ خوْفاً مِنَ الفِرَاقِ
هل ما زالتْ على الوعْدِ ؟
عِندما ودَّعْتُهُمْ …غسَلُتُهُمْ بِدمعِ العينِ
نَشَّفْتُهُمْ بِشفيفِ الروحِ… قالوا :
ننْتَظِرُكَ هنا …عندَ شاطيءِ البحرِ
عندَ حافةِ النهرِ …
عند شاطىءِ البحيرةِ
عند ميناءِ عكا حيفا ويافا
بينَ مَحَاجِيءِ الصُخورِ…
بينَ كُرومِ الزيتونِ وأحواضِ الصَّبّارِ
بينَ غاباتِ النخيلِ وبساتينِ البُرْتقالِ
بينَ أعناقِ النعْنَعِ البَريّْ
وفي مساءٍ يَشُدُّني الحنينُ اليهِمْ
فتَصْطادينَ بِعَيْنَيْكِ المطرَ وتُشْرِقينَ قبلَ الصَّباح
ثُمَ تَرْسُمينَني عاشِقاً مِنْ ورْدَةٍ
تَفْرُشينَ سريرَ الموجِ تنْتَظِرينَ الشمسَ …
تفرُشينَ جناحَيْكِ مَثلَ شِراعٍ
تَطوفينَ بي فوقَ الشُطْآنِ
كيْ أرَى البيوتَ والقلاعَ وأسمعَ أصواتَ المآذنِ والاجراسِ
وعندَ سورِ عكا هناك اتْرُكيني
حيثُ كنتُ أقفِزُ فوقَ السُّورِ
هناكَ تَرَكْتُ طُفولتي هل ما زالتْ
قَهْقَهاتي تُلاحِقُ جُيوشَ الموْجِ ؟
تَجْتاحُني فتقْذِفُني فوقَ التَّلة ألبَسُ قُبَّعَةَ الفاتِحِ
أدَحْرِجُ حِجارَةَ منْجَنيقِه وأقولُ
هُنَا هَزْمْتُ جيوشَ الغُزَاةِ
أنا حنْظَلةُ ابنُ الثماني سنواتٍ لا لا لَمْ أكْبَرْ
لم تضِعْ مِني بوصَلَتي ومِجْدافي
أدَرْتُ ظَهْري الى مَنْفَايَ
وعلى جَدارِ خَيْمَتي رسَمْتُ حُلُمِي وصورةَ بِلادي
لا … لا لمْ أكبَرْ يا جَفْرا حِمْلي خفيفٌ
هيا انْقُليني فوقَ شِراعِ جَناحَيْكِ إلى الضَّفةِ الاخرى
حيثُ حافةُ النهرِ هناك . . .
عَمّْديني بِخَطيئَتِكِ الاولى وطَهِّريني
لا … لا … لم المَسْكِ
وإنْ لَمَسْتُكِ ستَلِدين إلَهاً صغيراً
يُغَيِّرُ شكلَ العالمِ ويعيدُ صياغتَه مِنْ جديدٍ !
ثم اقذِفيني فوقَ ضِفافِ البُحَيْرةِ
لا…لا دعِيني أمْشي على الماءِ وحيداً
كيْ أُهَدِّيءَ عصفَ الريحِ وأقبضَ على
دفَّتيِّ الشِرَاعِ وامْلأْ شبكةَ الصيادينَ
أسيرُ على دربِ مَنْ سارَ هُنا
وطافَ حول بحرِ الجليلِ
دَعيني اُطِلُّ على سبعة عشرَ قريةٍ
خَطاها الجليليُ بِقَدَميهِ الطاهِرَتينِ
باركَ أهلَها . . . ملآ جرارَ نبيذِهِمْ
باركَ قمحَ بيادرِهمْ جالسَ الأهلَ
قَصَّ عليهِمْ حكاياتِ تَرْحَالهِ ونَفْيِهِ وعَذابِهِ
قَصَّ عليهِمْ حكايةَ ابنِ الثامنةِ الهاربِ
مِن سيْفِ هيرودُوسَ القاتلِ
حَمَلَ عُمرَهُ في قلبهِ وبينَ رِئَتَيْهِ … لكِنَّهُ عَادَ
عادَ مِنْ جديدٍ عادَ مِنْ نَفْيِهِ ومِنْ غُربَتِهِ
عادَ كالمارِدِ الجَبَّارِ يَحمِلُ كتابَهُ وسِراجَهُ
يَطوفُ القِفَارَ يَقْفِزُ مِنْ جبلٍ الى تَلَةٍ
يُحَلِّقُ في الهواءِ مثلَ طائِرٍ
جَفْرا … هذا الفَدَائِيُ الأولُ مُعَلِمُ الأجيالِ
هُوَ مَنْ شرْعَنَ قانونَ الفِداءِ
متى نُلَّبِّي له النِداءَ ؟
هوَ مَنْ أوْمَأ لي بِطَرفِ عيْنهِ
هو مَنْ أعادَ لي بوصَلَتي
هو مَنْ أهداني خريطةَ بِلادي
قالَ لي سِرْ أيُها البطَلُ وخُّطّ قانونَ الفِداءِ
رئعة رغم لألم