ضمن فعاليّات معرض الكتاب العربي السّادس ٢٠٢١، الذي تنظمه جمعية هلا صور الثقافية , وقّعت الشاعرة زينب حليل عقيل ديوانها الشعري (كي تقرّ عينها) وذلك نهار السّبت الماضي في مركز باسل الأسد الثّقافي في صور ، الجناح الخاصّ بدار البيان العربي للطباعة والنشر والتّوزيع .
حضر حفل التوقيع وزير الثقافة القاضي محمد مرتضى و رئيس الحركة الثقافية في لبنان الاستاذ باسم عباس وصاحب دار البيان العربي ونائب امين عام اتحاد الكتاب اللبنانيين الدكتور أحمد نزال ورئيس جمعية هلا صور الاستاذ عماد الدين سعيد وحشد من الشعراء والفعاليات الجنوبية والمهتمين بالشأن الثقافي .
كلمة التقديم للشاعر باسم عباس , وهنا نص الذي هو بمثابة دراسة نقدية وتحليلية :
عُنِيَ الرمزيون بتوثيق الصلة بين الشعر والموسيقى التي هي أقوى وسائل الإيحاء، وأقرب إلى الدلالات اللغوية النفسية في “سيولة” أنغامها. وقد تأثّروا بالموسيقيّ الألمانيّ “فاغتر” لتوليد الإدراك الرمزيّ مما هو جوهريّ في موسيقى الشعر. يقول “فرلين”: “عليك بالموسيقى قبل كل شيء، ثم بالموسيقى أيضًا ودائمًا، وليكن شعرك مجنّحًا حتى ليحسَّ أنه ينطلق من الروح عابرًا نحو سماوات أخرى”. في هذا المناخ وُلِدت قصائد زينب عقيل بإيقاعات فيها من العذوبة والتدفّق والغليان والتوتّر والرّقّة والتمرّد ما يجعل المتلقي يشعر بأنه مشدودٌ إلى الحالة الشعريَّة، بشقّيها النفسيّ واللغويّ، انشداده إلى الموسيقى التي تحمله إلى عالم من الجمال والانبهار.
لي سرُّ مريمَ حين الصمتُ أوّلها ما همها العوم كانت روحها القصبا رقصُ الفراش جناح في تمرده نزفٌ وأحلى معاني العشق ما صُلبا
إشارة هنا إلى أن قصائد الديوان تتوزع إيقاعيًا على الشكل الآتي:
– قصيدة واحدة على وزن المتقارب، وهي قصيدة تفعيلة.
– أربع قصائد على وزن الوافر.
– إحدى عشرة قصيدة على البسيط.
– خمس عشرة قصيدة على الكامل.
إلا أنّ مَن يقرأ القصائد لا يشعر بأنه أمام أوزان تقليدية، إذ إن الشاعرة، بقلقها وتمرّدها، ورهافة حسِّها، ودفق مشاعرها، وتمكُّنها من الإمساك بالحالة الشعوريّة، استطاعت إغناء القصائد بإيقاعات داخلية مؤثِّرة وآسرة، تضافرت مع الإيقاع الخارجيّ مشكِّلةً فضاءً موسيقيًا هو أحد أهمّ مقوِّمات الشعر.
زينب عقيل، في ديوانها “كي تَقَرَّ عينُها”، فراشةٌ بجناحين من قلق، ألوانهما حبٌّ وشوقٌ وبكاءٌ وخوفٌ وحزنٌ ونارٌ، فراشةٌ تعشق الجمال في اللغة والموسيقى، وفي الزهر والقندول، حتى في حزنها ضوءٌ وجمالٌ وأغوارٌ تشي بتوقها الدائم إلى الحرية، لكأنها تعمل بما اتخذه “فيكتور هوغو” شعارًا: “الحرية في الفن”، أو كأنها تحاول السباحة في نهر “ألفرد دي موسيه” حين عارض “بوالو” في مبدئه الكلاسيكيّ من نشدان الحقيقة حيث يقول: “لا حقيقة سوى الجمال، ولا جمال دون حقيقة”.
والجمال وحده هو ما ينشده الرومانتيكيون. فهل زينب عقيل ساقيتان إحداهما رمزية والأخرى رومانتيكية تصبان في نهرٍ واحدٍ هو الجمال؟
ويلجأ الرمزيون إلى الصور الشعرية الظليلة يحددون بعض معالمها، تاركين الأخرى تسبح في جوٍّ من الغموض الذي لا يصل إلى الألغاز. يقول “فرلين”: “أحبُّ شيء إليَّ هو الأغنية السّكرى، حيث يجتمع المحدَّد الواضح بالمبهم اللامحدَّد، والأهمية الأولى للظلال لا للألوان، كما تتراءى العيون الساحرة من خلف نقاب”.
لا تخلو قصيدة في هذا الديوان من الصور الجميلة التي تنشر حالات يكتنفها الغموض الشفاف الآسر دون الوقوع في فخ الألغاز الذي يقع فيه العديد من الشعراء لأن لديهم مشكلة عميقة تتمثّل في عدم القدرة على الإمساك بالحالة الشعوريّة، وهذا ما يؤدي تلقائيًّا إلى العجز عن التعبير بلغة شعريّة متناغمة مع الإيقاع النفسيّ، ومن الطبيعيّ في هذه الحال أن تغدو الصور ألغازًا لا تقوى على ملامسة الروح الإنسانيّة، وهذا ما نجحت زينب عقيل في تجاوزه مطلقةً جناحيها في فضاءات ملأى بالصور الموحية المعبِّرة عما قاله “فرلين”: الأغنية السَّكرى، واجتماع المحدَّد الواضح بالمبهم اللامحدَّد”.
للقصيدة وحدةٌ عضويّةٌ ذات بنية حيّة، وهذا ما يميّز الشعر عن النحت والتصوير مثلًا، وأوّل من قرَّر هذه الخاصّة “لسنج” الألماني (1729- 1781) في كتابه “لاوكون Laokoon” الذي صدر عام 1766، وعنده أن الرسم والنحت مبدؤهما مكانيٌّ لا زمانيّ، في حين أن مبدأ الشعر زمانيٌّ لا مكانيّ، لأنه يجسم لنا الأفكار من خلال حركة القصيدة، وقد أعجب بقوله هذا “غوته”، وهو من آباء الرومانتيكيين، ويقرِّر هذا المبدأ الفنيّ أيضًا “أوسكار وايلد”، فالقصيدة الغنائيّة ذات وحدة عضويّة حيّة نامية. وأنا أتابع قراءة ديوان الشاعرة زينب عقيل لاحظت هذه الحركيّة في قصائدها التي اتّسمت بالوحدة العضويّة والنموّ المتواصل والترابط، ودائمًا تحضر الذات لكنها سرعان ما تتحوّل إلى موضوعٍ إنسانيٍّ عامٍّ، ولا تبقى أسيرة (الأنا)، وهنا تجدر الإشارة إلى أن البارز في الديوان هو استعمال أفعال الأمر 47 مرة، المخاطب (ضمائر وأفعال) 150 مرة، المتكلم (ضمائر وأفعال) 340 مرة. “فالشعر الرمزيّ ذاتيّ، ولكنه ليس ذاتيًّا في المعنى الرومانتيكيّ بل في المعنى الفلسفيّ”.
واللافت في هذا الديوان أيضًا قدرة الشاعرة على التنويع في الأساليب، وهذا ما أضفى على القصائد حيويّةً ومرونةً، وأخرجها من الرتابة التي يقع فيها العديد من الشعراء، ومردُّ ذلك إلى عنصرين أساسيين: صدقها في التعبير عما يجول في داخلها، وتمكنها من اللغة، فلم تبق أسيرة نمطية محددة. ولطالما كان الحبيب أشبه بالوطن البعيد، لكن الشاعرة تعمد إلى مخاطبته على أنه سؤال حائر وذكريات، وتصل إلى مرحلة من الشعور بقسوة الغربة والوحدة والفقد، فتصرخ:
تظلُّ تثررُ الأيامُ حزنًا تراكم فوق أنفاسي جليدا
وبتصوير فيه براعة ورهافة حسٍّ، تجمع صوت الحبيب:
وأجمع صوتَكَ المنسيَّ غيمًا يساقط فوق أشواكي ورودا
ولشدة امتزاج الحزن بالفرح، واليأس بالأمل، والدمع المالح بالسكّر، باتت الابتسامات مملّحة.
ولدى زينب حنينٌ دائمٌ إلى اللون، ولذا يحضر في قصيدة واحدة، العطر، الدم، السواد، الضوء، العنقود، البياض، الشمع، الجرح، الجيد، الكروم، الخضرة، القمح، والفضة. لكأنّ هذه المفردات تتضافر مشكِّلةً صورًا تحلِّق حاملةً بأجنحتها رسائل الحنين والبوح والحب والجراح.
وطالما أن القاموس الطاغي هو الحزن والنار والخوف والبكاء، فهذا مؤشر إلى أن الشاعرة ستخاطب طائرها محذِّرةً إياه من التصفيق، لأنها لم تعد تطيق تحليقًا، وما عاد يعنيها من الدنيا سوى كأس تشبع الطين الهزيل، تبلل النجوى هوًى أو ريقًا. هي تريد طائرها صورةً عنها، مشبعًا بالخوف والشك المهيب، فتناجيه قائلةً:
خذني إلى طيني أشكِّلُ حزنَه
ماءً يحن إلى فمٍ
من ذا الذي يسقي دمي الإبريقا؟
ويبدو جليًّا استخدام الرموز الدينية والأسطورية والتاريخية: المسيح- محمد- موسى- الخنساء- أيوب- آدم- مريم- إسماعيل- قابيل- الحلاج- السهروردي- ذو النون- يعقوب- العنقاء- زرياب- سيزيف- أخيل.
وهو استخدام لم يأت اعتباطيًّا أو لمجرّد حشد رموز في القصائد، بل لقد أتقنت الشاعرة كيفية التعامل مع هذه الرموز، وتوظيفها لإغناء القصيدة لغةً ومعانيَ من جهة، وللوصول بالحالة الشعورية إلى أعلى مراتبها من جهة ثانية.
الكلمات المفاتيح في الديوان: الظن 5 مرات- الموت 5 مرات- البكاء 6 مرات- العينان 8 مرات- الشوق 8 مرات- الملح 10 مرات- الخوف 10 مرات- الخيانة 12 مرة- النار 20 مرة- والحزن 30 مرة.
هذه الكلمات المفاتيح، إضافة إلى العديد من المفردات الأخرى، شكّلت المسارات التي سافر فيها وعبرها وجه زينب عقيل لتنحفر فيه ملامح الغربة، فلا تجد مناصًا من احتساء قهوة الأحزان، وهي حين تجرع الريح كي ترمي بها السحب، فلكي تحملها إلى أراضٍ عطشى، فتغدو كوردة في جنون الثلج:
كأنني في زحامِ الشوقِ عاثرةٌ تبرِّدُ الدمعةَ الأنفاس والحطبا
فأحتسي قهوة الأحزان مسرفةً وأجرع الريح كي أرمي بها السحبا
كوردةٍ في جنون الثلج يحرقها ماءٌ على غصنها الحاني الذي انسكبا
زينب عقيل شاعرة تجيد التعبير العميق عن الوجع، خصوصًا ذاك المتعلِّق بالهجر والغربة، حيث لهما عطرهما الخاص:
وتعطري بالهجر، لا تقفي بين الحنين وغربةِ الحبقِ
عيناك شبّاكان من دررٍ لا توجعي الألماسَ بالقلقِ
وحين يشربها خيط المسافة بين الضوء والورق، وإذ تجرح الماء بالحدق، يبقى لديها هذا الإصرار على التشبُّت بالحلم:
لي سماءٌ ولي أحلامُ راعيةٍ ترعى النجوم على قيثارةِ القلقِ
والظن لدى زينب أغنية احتراق، وبداية احتمال:
أراني أبدأ الآن احتمالي ظننْتُ، فهل أراكَ ببئرِ ظنِّي؟!
وعندما تشعر بالقهر في بلادٍ يسوق الموت رايتها، لا تملك إلا أن تقف متحدِّيةً قائلةً:
ودَعي جنون الغيم لو أفلَتْ شمسٌ على هدبينِ من أرقِ
وهي في ذروة حزنها ووجعها وقلقها، تخاطب بيروت الأمّ طالبةً منها أن تنفض الخوف والحزن.
ولكم تحتاج الشاعرة زينب عقيل إلى أسئلة في كفّ الليل، وإلى ساقية قبل ذبول الورد، كي ينبت الشعر والحب والجمال؟
درع وشهادة تقديرية :
وكانت الشاعرة زينب عقيل قد تلقت خلال حفل التوقيع درعا تقديريا من صاحب دار البيان العربي الدكتور أحمد نزال , كما استلمت شهادة تقديرية من رئيس جمعية هلا صور الاستاذ عماد سعيد .
كلمة الإهداء
كتبت الشاعرة كلمة الإهداء التالية :
“إلى القلوب التي عانقتني بالدّفء، ولوّحت لي بمنديل وفائها، وصفّقت لعثراتي، لحزني، لكآبتي، كي تقرّ عيني، ويبصر ورديَ الغافي أوّل خيوط الفجر… “
قصيدة من الديوان : ” حزن البلابل ”
أنا حين يخذلُني الغيمُ أكسرُ جنحي كأنَّ البلادَ انتحارُ
كأنَّ الدّروبَ سجونٌ
ونحنُ الجناةُ
يُخاتلُنا الموتُ عند ازدحامِ المنافي
ويكوي الرّقابَ
حصارُ
أنا أوّلُ الكافرينَ بهذا السّكوتِ
بهذا الصّراخِ الدّفينِ….بمن قالَ: صمتُ الجياعِ وقارُ
أراقبُ حزنَ البلابلِ…
رقصَ الفراشِ الأخير…
وخوفَ الأقاحي من الرّيحِ من عطشٍِ يرتديهِ انكسارُ….
فيا أيّها العابرونَ حدود الفناءِ
وأنتم تُساقونَ إلى محارقِكم….هل ستشفعُ للطّينِ نارُ؟!
غدًا سنكدّسُ دمعًا
سنغرسُ جرحًا
سنبذرُ عتمًا
ونُرمى ببئرِ خطايا الذّئابِ،
كأنّا حصاةٌ
كأنّا حِجارُ
كأنّا ذنوبٌ كُتبنا على خدِّ هذي البلاد
كأنّا طرودٌ بريديّةٌ ضلّتِ الدّربَ نحو
السّماءِ
ونحو الغناءِ
ونحو الإله
كأنّا رعاةٌ أضعنا مزاميرَنا
فوقَ سفحِ الجراحِ
كأنّا اندثارُ
(من الديوان الجديد للشاعرة زينب عقيل)
قصيدة ” خمرة الأطلال ”
موجي كأوّلِ ضحكةٍ في البالِ
تعرى لتسبقَ بحّةَ الموّالِ
وتجمّلي بالبعدِ كحل خميلةٍ
لا تُشرعي بابًا على الأطلالِ
فلأنتِ من تعبِ الحقولِ قصيدةٌ
سمراءُ تعكسُ خمرةَ الأظلالِ
ولأنتِ وترٌ في صلاةِ جديلةٍ
ملّتْ من الألوانِ والأشكالِ
هذا رمادُكِ أوقديهِ لتشعلي
روحًا تتوقُ لسكرةِ الإشعالِ
وتمرّدي فالحزنُ خيطُ سحابةٍ
يسقيهِ دمعُكِ سكّرًا في الحالِ
أنتِ ابتساماتٌ تُملِّحُ ثغرَها
وتُفكّكُ الأوجاعَ في الأقفالِ