زيارة الأهل
ما وقفت على كتاب قديم أو حديث، إلا ووجدت نفسي في “زيارة الأهل”. ما تعرفت على أديب أو شاعر أو روائي أو واحد من أهل الفنون، ولو كان رساما أو مسرحيا، أو حتى سينمائيا، إلا ووجدت نفسي، كمن يتعرف على أهله: جاؤوا الساعة من بعيد. ما سمعت نصا أو شعرا. ما قرأت نصا أو شعرا. أو وقفت أمام عمل فني، أو تشكيلي، إلا وأخذتني الغبطة، بأنني في ديار الأهل، أسمع أصواتهم، وأقرأ رسائلهم،وأشم رائحة أقلامهم من بعيد.
زيارة الأهل لها طابع مختلف. ولها رائحة مختلفة. ولها علوق في النفس، لا تباريه ولا تجاريه، جميع العواطف الأخرى. ولشدة تأثري بالوقوف في مكتبة، أو في الوقوف مع كتاب، أو في الوقوف مع كاتب، أردت أن أعبر عن مثل هذا النوع من الزيارات، الندية بالعواطف، والتي تملأ جناحي، فأشعر آنئذ أن أطير بفرح، لا يجازيه أي فرح آخر.
الشوق إلى الكتب والكتاب والكتابات، مثل الشوق إلى الأهل، مؤثر للغاية. وكلما كان الكتاب قديما، كان الشوق إليه أعظم.كأنك تزور واحدا من أجدادك القدماء. من غير تفريق، بين كتاب وطني، وبين كتاب أجنبي. فنحن من نسل آدم. وجميع الكتب من لغة آدم. ولذلك يعاودني الحنين للقدامة، في أثينا، أو في الأقصر. أو في سامراء. أو في ساحة الأمويين، أو تحت شجر الأرز. لأن ظلال القدامة أخاذة، كظلال القلاع القديمة. كظلال جدرانها، التي تعتق الزمن في طوبها.
زيارة الأهل، لا تعادلها، إلا زيارة المكتبات. هناك تلتقي بالأجداد القدماء: الجاحظ والتوحيدي والميداني. هناك تلتقي بالمتنبي وبأبي تمام وإمرئ القيس. هناك تلتقي باليعقوبي وبأبن حوقل وبالأصفهاني وبالفراهيدي وبسيبويه. هناك تلتقي بإبن الاثير وإبن كثير وإبن الجوزي.
مراتب الكتب، مثل مراتب الأهل. مثل مراتب الأسرة. مثل مراتب العائلة. كل كتاب ثمين على القلب. مثلما كل فرد من أفراد الأسرة غال على القلب.
وأكثر ما يكون الإشتياق، لكتاب بعيد لا تطاله اليد. مثل واحد من أهلك من ولدك، من أقربائك ، لا تصل إليه. فليس بمقدور المرء أن يعرف مسبقا، هذا الفرح الكلي الغبطة والإبتهاج، حين يقف واحدنا على كتاب إفتقده منذ زمان بعيد. أو حين يقف على كتاب يعرف بأهميته، من خلال ما يسمعه. فللكتاب سمعة واحد من الأهل. والإلتقاء به، إنما هي فرصته النادرة، لشم رائحته: حبرا وغبارا وعطر أوراق وندى كلام وسطور ذمم.
زيارة الأهل، إنما هي زيارة دور الكتب ودور المكتبات. إنما هي الوقوف مع عناوين الثقافة و الفكر والأدب والشعر، والرأي الحر. هؤلاء هم أهلنا، حين نكون مع الكتاب، مع الكاتب، او في دور المكتبات.