.. حصل موقع ” ميزان الزمان ” الأدبي في بيروت على النص الكامل لملحمة ” جفرا ” للشاعرة اللبنانية / الفلسطينية دوريس علَم خوري , ولأن القصيدة / الملحمة لم تنشر كاملة من قبل و تحتاج إلى التمعّن في مغازيها وأبعادها , ننشرها على أجزاء ..وهنا الجزء الأول :
” لِجفرا مقلةُ العينِ ” : ( الجزء 1 )
( ملحمة شعرية للأديبة دوريس علَم خوري )
-×-×-×-×-
قال اللاجيءُ :
ما لكِ يا جفْرا لِلاجِيءٍ مِثلي
يُسابقُ الطيورَ في الصباحِ يُسافرُ مع الريحِ
يجوبُ القِفارَ
يبحثُ عن لقمةِ عيشٍ
يزرعُ بكَفَّيْهِ حبَّاتِ قمحٍ
فتأْتي العصافيرُ أسراباً وجحافلَ
تَنْقُدُ حبَّاتي بِصَمْتٍ فَتَطْرَبُ
وتُغرِّدُ شحاريرُها
يُنْشِدُ الموالَ يعودُ في المساءِ
يَعْتلي قبةَ السماءِ ينامُ بين طياتِ الغيْمِ
يَسْمعُ أنينَ المُتَألِمينَ وخُوَارَ الجائِعينَ
فماذا يفعلُ لاجيءٌ مِثلي في المنْفى لا مكانَ لهُ
ولا مأوىً حتى اللهُ لمْ يقْبَلْهُ في قبةِ سمائِهِ
قالتْ جفرا :
هيَّا أيها المنفيُّ أنْزِلْ شِراعَ سفينَتِكَ
واصْعَدْ فوق كَرْمِلي
واعبُرْ نفَقَ القلبِ
ها كبُرَتْ أنوثةُ مُفْرداتي
وحَرْقةُ الوردِ لِشَمِّ رعشةِ عِطْري
هيَّا ألبِسْكَ ثوبَ مَطري كيْ أُلْغيَ طُفولَتي
واكتَشِفَ فيكَ أبعادَ لُغَّتي وقاموسَ غِوايَتي
هيَّا أُعبُرْ الى منْفاكَ
حيثُ لا عسكرَ ولا بنادقَ سِوى
وصْوَصاتِ مناقيرِ عصافيري تُدَوِيَّ
في جنباتِ قلبِكَ المذبوحِ
هيا اقتَرِبْ وأنزِلْ شِراعَكَ فوق صَدْري
واهجَعْ كالقتيلِ في خليجِكَ كي تنامَ
هنا… تَجِدُ ملاذاً آمِناً !
أُعْطيكَ … إقامةً دائمةً في قلبي
لكَ شجرةُ حُلْمي …لك كلُ ما تتَمَنّاهُ
أنا عُصْفورَةُ المَنْفَى مِنْ شرايينِ قلبي
نَسجْتُ لكَ خَيْمتي
مِنْ أورِدَةِ شراييني حِكْتُ لك ثوباً بنفسجياً
نَصَبْتُ لكَ أُرْجوحَةً لِقَلْبِكَ المُتْعبِ
كي تَعْتَلي عرائِشَ كَرْمَتي
المُطَّلَّهُ خلفَ أسْوارِ حدائِقي
حدائقَ أبْهى مِنْ حدائقِ بابلَ
حدائِقَ تُطِلُ على مرْجِ السُنْبُلِ
تجوعُ فأطْعِمُكَ مِنْ حبَّاتِ سنابلي
هيا اعْتَلي كيْ أُهَدْهِدَ أجفانَكَ مثلَ طفلٍ صغيرٍ
تَعْطَشُ …فأسْقيكَ ذوْبَ أحاسيسي
أرفعُكَ الى قُبةِ هَرَمي
تُطِلُّ على دهاليزي ومع كلِّ رُكْنٍ الفُ حكايةٍ وحكايةُ
اللاجيءُ :
جفرا يا مقلةَ العينِ …
يا وطنَ المنفيينَ
ما لِقلْبِكِ … يعْشَقُ لاجئاً مِثلي
لا مكانَ له … ولا مأوًى
جِئتُكِ بِيَدينِ فارِغَتينِ
جِئْتُكِ بِيَاسمينِ الشامِ
جِئْتُكِ بِشُلوحٍ من أرزِ لبنانَ
أرْسُمُكِ فوقَ السُّطورِ … أخُطُّكِ فوقَ الحروفِ
فوقَ الجَداولِ فوقَ الحدائقِ فوقَ الشِفاهِ
أرسُمُكِ لوحةً سِرْياليَّةً لا يفْهَمُها سِوايَ
أرسُمُكِ فوق نُقَاطِ دهشتي …
فَتَعودينَ مثلَ طفلةٍ صغيرةٍ
تَسْألينَ عن سِرِّ القُبلَةِ الأُولىَ …
عن طَعْمِها عن لَوْنِها …
عنْ قُبْلةٍ تَعْصِفُ بِجَنَباتِ خَيْمتِكِ
تَجْتاحُكِ من مُحيطِكِ لِخليجِكِ
أُعْطيكِ قُبْلةً كيْ يَتَذَكَرَّني
توتُ الجليلِ على شفتيْكِ
قبلةً ما زالتْ ساخِنةً كَرَغيفِ القُبْلَةِ الاُولى
لكِ … جمعتُ أشعاري حبةً حبةً
لكِ ضَمَمْتُ غِماري وأغْلى حَصَادِ سِنيني …
جَفْرا :
أنا عصفورةُ المَنْفى مِنْكَ حَبيبي
عُشُكَ الضَّائِعُ في صدْري
أطْلِقُهُ لكَ ساعةَ تشاءُ
أُرْسِلُ لكَ جناحَيَّ كيْ تنامَ
إفتَحُ لي بابَ سَمَائِكَ السابِعةِ
كيْ تُزْهِرَ رياحيني
وفوقَ صَخْرَتِكَ أَبْني قصيدي
كيْ تُعَشِشَ عصافيري
فتُمْطِرَ السماءُ مِنْ بُخورِ عِشْقي
وما بين سكْرَتي وصَحْوتي
يُبَاغِتُكَ طيفُ بلابلِ نغَماتي
أُهْديكَ … غرسةً جِئْتُها مِنْ
بساتينِ كُفْرِقانا نَبَتَتْ فوق صدري
وفوقَ شجرَةِ حُلُمي تَهِزُّ مواويلي
أرْضِعُك حنينَ بلادي …
وإنْ عَطِشْتَ … أَسْقيكَ من لبنِ الروحِ
اللأجىء :
جَفْرا دعيني أغفو فوق نَهْدٍ نَبَتَ فوقه
رُمَّانُ كُفرقانا وعِنَبُ الخَليلِ
شَفَتَاكِ شَهْدي … عيناكِ عَسَلي
قامَتُكِ جِدارُ ظَهْري وسُلَّمي العالي
وعرْشُ مَسيحي المصلوبِ في وطَني
هيَّا اجْلِسي فوق سَمَائي
فوقَ عرشِ قلبي
ملاكٌ ذات اليمينِ
ملاكٌ ذات اليسارِ
وكرْمِلٌ عالٍ
يَرْتَجِلُ الموَّالَ
منهُ يَسْتَظِلُ
ويَقْطُفُ الكلِماتِ مِنْ شفتيكِ
لِنَشيدِكِ طقسٌ …
لِعَرْشِكِ صَوْلجانُ …
خلفَهُ يسيرُ البعلُ وموكِبُ الجَانِ
لِوَقْعِ أمْطَارِكِ سيمْفونِيةٌ وإيقَاعاتٌ سِحْرِيَةُ
لِرَبيعِكِ أُقحُوَانُ أدونيسَ
لِنيسانِكِ خمرةُ أوزيريسَ
لأِعْشَاشِكِ بلابِلُ وموْئِلُ الصيَّادينَ
دَعيني أحفُرْ في دهاليزِكِ خنْدقاً
أسِرْ خلفَ إيقاعاتِ نَبْضِكِ أتسلَّلْ مِثلَ الغُزاةِ
أَتسَلَّلْ لِفَضاءِ شَمْسِكِ
أستَرِقْ مِنْ عرْشِكِ المُضيءِ
صَوْلجاًناً يُعيدُ لي مَجْدَ الخُلودِ
جفرا … يا جمْرَةَ القلبِ وشُعْلةَ حنيني
لِبَحْرِكِ الجلِيليِّ مَوْئِلٌ للِحورِياتِ
خلفَ شُطْآنِكِ مُسْتَراحٌ لِلْنوارِسِ البحريةِ
سأنْسى حينَ أصْحو كيْ أُحِبَّكِ مِنْ جديدٍ …
إفسحي لي مجالاً في حديقتِكِ كي أراكِ
إفسَحي لي مجالاً كي أدخُلَ حِجَالَكِ
دعيني أَنْثُرْ شِراعَ قلبي فوق أوراقِ رمانِكِ
علَّ ياسمينَكِ يورقُ بين أضلُعي
دَعيني أحِكْ لكِ شالاً من الوانِ قوسِ قُزَحٍ
وأرتدي قميصَ غيمِكِ الزاحِفِ من أعْلى هامَتِكِ
ما سواكِ سِوى ابتهالاتِ خاشعٍ مُتَعَبِدٍ خلفَ ضبابِكِ
جفرا يا حُلُمي …
يا أنشودةَ العابرينَ
عيونُكِ مَنْ تكونُ ؟
عيونٌ منذُ فجْرِ التاريخِ؟
عيونٌ ترصُدُ التاريخَ تخُطُّ خريطَةَ وطني
عيونُكِ أنشودةً لِمَلائكَةٍ تَتَراقصُ على شَفاهِ الايَّامِ !
أسألُكِ بِحَقِ السَّماءِ…. بِحقِ وطَني المذْبوحِ ؟
لِماذا لا يقبلُنا اللهُ في عرشهِ… ولا تحْتَ سَمَائِهِ ؟
لِماذا ختَمَنا الآعداءُ على جِباهِنا مثلَ هُنودٍ حُمْرٍ ؟
يُرسِلُنا لصباحٍ قادمٍ … ومساءٍ ضَاعَ
بينَ حقائِبِ سفَري …
***
( يتبع الجزء 2 / الاثنين المقبل )