فائض الواقع
يعرفنا الشعر على نشوة حقا. على نشوة الوجود. ويساعدنا على تحمل “فائض الواقع” الذي لا يطاق. وربما منحتنا العجائب التي نستقيها من الشعر. الطاقة العظمى، لمواجهة قسوة الواقع. إذ ينفلت شعر الحياة من عقاله، بإعتباره إنبساطا ومشاركة وسعادة، من خاصيته الترفيهية. فهو لا ينقذنا من الموت، لكنه يمثل، من خلال الحب الوجودي، والغبطة الوجودية، المدمج في ذاته والمدمجة فيه: الجواب الحقيقي الوحيد على الموت.
لم يكن “فائض الواقع” أعظم منه على الناس، أكثر منه في العصر الجاهلي. لذلك حشد الجاهليون الشعر، ليعيشوا الواقع بالكامل، مع وعيهم بقسوته. فمنذ إنفصل الشعر الجاهلي، عن الطقس وعن السحر، ظل يبدع الفرح. لأنهم وجدوا في الشعر سبب الفرح إلى الأبد. فأبدعوا المعلقات، وعلقوها على جدران الكعبة. جعلوها في أمكنة العبادات. فصار لها زمنها الخاص بها. صارت مسحورة بالفرح العمومي، بديلا عن اليأس والقنوط ومأسوية الواقع، الذي كان يغرقهم بفائضه اليومي.
وفاقا ل ” تي إس إليوت-T . S.Eliot: ” لا يمكن للإنسانية تحمل الكثير من الواقع. علينا أن نتوصل إلى توافق مع الواقع، لنتمكن من تحمله.” وقد حقق الجاهليون هذا التوافق، عن طريق التجميل المعمم، عن سبيل الشعر، الذي لم يكن لهم سبيل آخر غيره، كما قال الجاحظ، لأنهم كانوا “أمة شعر”.
برأينا إن الشعر الجاهلي، كان وسيلة الجاهليين، لما سمي “التجميل المعمم”، لأنه أخذ يشتد ويقوى قبل الإسلام بمائتي عام، مع تدهور الطقوس الدينية ومعتقداتها الكبرى إذ أخذنا نرى كيف كان الشعر الجاهلي، وخصوصا منه القصائد والمعلقات، يغذي تلك النزعة العدمية، التي تفضل أكثر ما تفضل التمتع الشعري. وسرعان ما أصبح الغاية الوحيدة في حياة الجاهليين. إذ ذاع “سحر الشعر”، بديلا عن سحر الطقوس الدينية، لإيجاد سلوات خارقة للطبيعة، متمثلة بالبيد والفيافي والواحات. وبالحيوانات الصحراوية الوحشية والأنيسة. وذلك من أجل الهروب من قلق الفراغ العدمي. وهذا ما أشار إليه “باسكال”، بأن الشعر يثير فيما يثير نوعا من ترف الترفيه، الذي يصرف إنتباه الناس، عبر المشاعر التي تنتج في نفوسهم بسببه، عن الشقاء الطبيعي، لوضعهم الهش والقاتل والبائس جدا، “إلى درجة لا يوجد معها شيء يواسينا”.
شكل “فائض الواقع”، على الشعراء الجاهليين، حالة من إضعاف مراكز الفصل بين الأنا والآخر، أيا كان هذا الآخر: المحبوب والقبيلة والحيوان والصحراء، في كل ما هو شعر وحب وتواصل ومشاركة وعاطفة شعرية. فكان الشاعر، أسير هذة الحالة المفضلة عنده، في الإنفصال والتوحد، حول الذات والآخر. صار الشاعر أسير عاطفة شعرية محددة، تغمرها الغبطة ويغمرها الإبتهاج، من خلال ما يثيره مشهد الصحراء، أو مشهد القافلة، أو ذلك اللقاء الحميم، مع المحبوب ووسائطه، من ديار ورسوم. أي من خلال ما يثيره من الإنفصام والتوحد معا على السواء.
رزح الشعراء الجاهليون تحت ثقل واقع فائض عظيم الهول. فأثار لديهم حالة من التعجب الشديد، جسد قوة شعرهم في شكل إعجاب كبير، تتكثف فيه برهة العاطفة الشعرية. مما كان يجعله يندفع، في إتفاق وتناغم مع المشاعر أو الأفكار التي يتشارك بها بصورة جماعية، في جماعة مؤقتة أو في جماعة دائمة ، لا فرق.
دفع فائض الواقع، الشعراء الجاهليين، للتعويض عن النزوح الدائم، بنوع مختلف من أنواع التملك. فسكنوا إلى المحبوبات. وسكنت نفوسهم، من خلال روح، أو من خلال وجد، أو من خلال شخص. أو من خلال الجواد والناقة والذئب. أو من خلال السرح مع القطعان، في الفلوات و البوادي والوديان. حققوا العيش في الزمان، بديلا عن العيش في المكان، إنتصارا منهم على الواقع الفائض عليهم بشدة قسوته.
كانت نشوة الشاعر، هي البديل عن مضايقة الواقع الفائض له. بددت خوفه، وقلقه، وحذره من الموت. وتجلت هذة النشوة، في أشكال مختلفة، تتأسس على الوحدة النفسية، وعلى سحر القصيدة. وعلى الوسائط المختلفة، التي تجعله قريبا من النشوة، بمختلف درجاتها: النشوة السحرية العنيفة والمتشنجة. ونشوة التقمص التي تشمل حالات التملك، ونشوة التعاطف المؤدية إلى الوجد، وإلى الطرب وإلى المشاركة الكثيفة، حتى حدود الإندماج في الآخر.
دفع “فائض الواقع”، بالشعراء الجاهليين، لبلوغ أعلى درجات الإنتصار بالسحري في القصيدة، وكذلك إلى أعلى درجات الحماسة. حتى باتوا يتحدثون عن الإلهامات، وكذلك عن القرين الذي يلهم الشاعر، وعن مدينة عبقر، ووادي عبقر، حيث يعيش الجن المؤنسون، الذين يساعدون الناس والشعراء منهم على وجه مخصوص، بنفس إبداعي ينعش الشاعر، ويقوي الإنسان العادي.
بهذا المعنى، إستطاع “فائض الواقع”، أن يجعل الشعراء الجاهليين، يتمتعون، بحالة من الإنبهار والكشف، تلامس حد الحالة الصوفية، فتمنح صاحبها شعورا بحماس الوحدة والإنسجام القريب من الحالة القداسوية، حيث يجنون: الإحترام النهائي، والإخلاص والتقوى والعشق الصوفي. ناهيك عن حالة الوجد، وهو الإنجاز الأسمى للحالة الشعرية.
“فائض الواقع”، دفع بالشعراء الجاهليين حقا، إلى توحدهم بالعالم المحيط بهم. فما كانوا يقدرون عن فصل أناهم عن الغير. بل زادهم الوجد القداسوي، إلى بلوغ الحالة المتناقضة، بحيث لا يجد المرء نفسه حين يفقدها، تماما كما لا يجد نفسه حين نسيانها. فكان الرد على “الواقع الفائض”، بالحالة الشعرية، التي هي الطموح العميق للإنسان، وكان الوجد بها، هو الطموح الأسمى لهذا الطموح.