” صدى الذات ”
كل هذا العالم، إنما هو صدى الذات. هذا العالم على عظمته، على شموليته، بجليه وبخفيه، ليس هو إلا صدى الذات. صدى ذاتنا نحن. صدى الناس. صدى البشرية، منذ وجودها الأول، حتى اليوم.
ليس هذا العالم الذي لا تحده حدود. وليس هذا البيت الأسري وشارعه ومدينته وريفه، بكل ضيقه، وبكل إتساعه، إلا صدى الذات. صدى يديها. صدى روحها. صدى عقلها. صدى خيالها. صدى آمالها.
أردت: ذات الإنسان نفسها. تلك التي نسج حولها، الأديب والكاتب اللبناني، الأستاذ إبراهيم درويش، كتابه: الكتاب. ( ” كتاب الإنسان”: صفحات مقروءة. دار الفاربي- 2018، ط١: 440ص).
رصع الصديق هذة المقولة، في صدر دراسته المشوقة ب25 بيتا من الشعر. جعلها “الإهداء”. جعلها صدى ذاته أولا بأول. بل صدى نفسه وعمره وروحه. صدى تجربته المرة والشاقة والعذبة. تلكم التجربة الغنية، التي ضبرها في كتاب:
خلاصة العمر أهديها لمن كانوا/ خميرة العيش تسري في مسراتي. ثم هو إذ يختتم:
بذاك أنهي حياتي بعد أن بزغت/ براعم الروح في أشكال آيات.(7-8).
محاولته في إكتشاف الذات وصداها، ليست عملا سهلا. وليست عملا يمكن أن يكون مستعجلا. فقد أخذ من كاتبه كل وقته، إذا لم أقل: سرق عمره كله، من قدام أهله وأخوانه. ثم أعاد نفسه صدى لهم. وهذة بحق: أعجوبة عمله.
تتأسس رؤية الباحث، على قاعدة من حكمة أرسطو نقشت على باب معبد دلف، في أثينا: “أيها الإنسان إعرف نفسك”. وجد أن المعلم الأول، كان قد جعل الإنسان مركز العالم. تماما كما جعل نفس الإنسان، صداه، ظله، نسيج العالم. وذلك لجعل العالم كهف الروح. كهف صداه، الذي لا يبرح يتردد، ولا يهدأ تردده. ولا يرتاح. يقول الكاتب: ” نداء سقراط… له صدى يتردد في التاريخ حتى الآن. وسيظل يتردد ما بقيت الحياة. لإن الحياة مسار (Processus). والمسار لا ينتهي. والإنسان… هو جزء من هذا المسار.”( ص9).
يتألف الكتاب من قصيدة إستهلالية، ومقدمة وبابين، وأربعة فصول، وخلاصة وبعض الملاحق الهامة للمراجعة. إذا، هو كتاب أكاديمي بإمتياز. حوى آراء ومواقف وأفكار صاحبه، من شؤون الإنسان الذي إعتبره أصل الإنسانية، بمعناها العام الشامل. هذة الإنسانية التي تطوي الأرض في إهابها العظيم. لماذا الإنسان؟ هذا هو سؤاله. وأما جوابه: “لأنه من الحياة. وكثيرون يعتبرونه مركز الحياة التي تجري به، وتجري لأجله”. (ص 13).متوقفا عند المدارس التي قالت فيه رأيها: القديمة منها والحديثة. الدينية منها والعلمية. منتهيا إلى التساؤل الأساسي:” كم تسهم معرفتنا بهذة القوانين في توضيح خفايا الكيان البشري وأسراره؟”( ص89).
في الباب الأول وعنوانه: “الصفات المادية للإنسان أو جسم الإنسان”( ص91). فقد رأى في مبتدأ مطالعته: أن الإنسان، هو جسم عضوي. “والجسم العضوي هو مركب لا يستكمل وجوده “الحي” إلا عبر تفاعل كل مكوناته.”. مقارنا بينه وبين الحيوان. مقارنا لسانه وكل عضو فيه، مع الثور. (ص91). شارحا النظريات القديمة، وصولا إلى النظريات الحديثة.( ص117). يتحدث عن البداية البيولوجية، وعن الخصائص البيولوجية. كما يتحدث عن الدماغ. وكذلك عن الوعي والدماغ. بالإضافة لتوسعه في الغدد ووظائفها: الدرقية والنخامية والكظرية والتناسلية. وصولا إلى بيولوجيا الحواس وجهاز المناعة.(ص 134-156).
في الباب الثاني: العقل أو الجانب المعنوي والثقافي، يتحدث الباحث إبراهيم درويش، عن شخصية الإنسان وهويته. وكذلك عن هويته البيولوجية. وقد توقف عند مقارنة نمو الإنسان بسائر الكائنات الحية. يقول: التمر نفسه يتكرر مع مفهوم الزمن( الوقت). الإنسان البدائي يقطف ثمرة ليأكلها. ويجد أنها لا تؤكل فيرميها. يدعها لزمن ثم يجدها قد إستطابت. مؤكدا على “مفهوم الإنتظار أو الصبر: أي الإمساك الهادف المربوط بغاية نريدها، وبحد زمني لنهايته.”(ص 178). يعالج الباحث أيضا، مفهوم اللغة(179-241)، مستذكرا النظريات والدراسات التي تكونت حول اللغة. وخصوصا، ما دار من نقاشات عن اللغة والعقل. وعن عمليات التعلم وعن المتعلم نفسه. وعن الذاكرة وتكونها في جسم العقل. كذلك تحدث عن ما أسماه الوعي الكانطيك. وعن الإرادة، وكيف تحارب الفلسفة المادية حرية الإرادة. معرجا في حديثه على: الإنسان والبيئة. والإنسان والإجتماع. عارضا المسار التاريخي للقدرات البشرية. ولو أنه كان يمر مرور الكرام، على أهم مكونات الإنسان: الأخلاق والثقافة والحلم والضحك والإيديولوجيا والحافز.(ص222-241). إلا أنه كان كثير التساؤل، عما إذا كانت الثقافة تشكل جسرا يعبر بين المادي والمعنوي، داخل الكيان البشري! وهل تشكل إجابة واضحة وحاسمة عن كل التساؤلات التي تربك مختلف النظريات والإتجاهات الفلسفية؟(ص240).
يعود الباحث من جديد لتخصيص الفصل الثالث للثقافة( ص241-303). وقد أفاض هنا، في الوقوف عند عتبات الثقافة و الدين. وكذلك ناقش مسار المعرفة، حيث إعتبرها خلطة: عقل. حس. روح. عاطفة. إجتماع. كذلك تحدث عن تداول المعرفة، كباب من أبواب التطور الإنساني. وعن المدارس الثقافية وعن علاقة الجزء بالكل. يقول في تحليل رائع: الإنسان وحده يتعلم ويتثقف…. وهو من يصنع الثقافة والتعليم. أي هو المعلم وهو المتعلم. وهو لذلك يصنع الثقافة والتعليم.(ص302).
في الفصل الرابع والأخير( ص303-383)، يقول الباحث: إن الإنسان تعامل مع حقائق الحياة. ومع حقائق كيانه الخاص. يعبر بين الجهل والمعرفة. ثم يعبر بالإنسان من الجهل أو مايشبه الجهل، إلى المعرفة فيتطور التعامل. ويتطور الإنسان داخل مفهوم الصيرورة . خلافا لتطور الحيوان في إستجابته لمواجهة خطر البقاء من عدمه. إذ إن جهاز الحيوان العصبي، يتعبأ أستعدادا للطوارئ.
وفي صيرورة الوعي، فإنه يدرس سياق الصيرورة. كما يدرس التجريد البسيط ويدرس التخطيط والذاكرة في مسار الصيرورة وكذلك اللغة والذكاء والعاطفة. يتساءل مثلا، إذا ما كان الإنفعال نتيجة حاجة جسمية لا تبلغ الإشباع، فهذا يعني أن العلاقة دائمة بين الجسم والعاطفة.( ص376).
فيما أسماه ” الخلاصة” يؤكد الأديب و الباحث، الصديق إبراهيم درويش على أن يفهم الإنسان ماهية الإنسان، في نطاق وحدة الدارس والمدروس ويقول: نحن الآن على منصة عقلية معرفية، هي المنصة “الراهنة” لتاريخ تطور الإنسان… منصة تقوم على أعمدة جينية وأخرى ثقافية… وأن ما قام به، ليس أكثر من محاولة. وينتهي أخيرا للقول: ” نحن نسعى. ونسعى فقط.. ماذا بعد( بفتحالدال) أن نبلغ الأفق الأخير؟. هل نكتفي اليوم بوصف الإنسان بانه ” كائن إستثنائي يسعى؟.( ص435).
عاد الباحث الصديق الأستاذ إبراهيم درويش، إلى نقطة البدايات: البحث عن الإنسان القادم. وهو محق في ذلك، مقارنة بما قدمه الإنسان الماضي، وبما يقدمه الإنسان الحاضر. مؤكدا نظريته، إن الإنسان هو الأول وهو الأخير. وأن الكون صدى له. لأن الكون، كان منذ البدايات صدى الإنسان. إهابه. وهو لا زال يجدد ثوبه، إهابه، جلده، مثل أفعى حواء، جيلا بعد جيل، صدى الذات. وهذا إستنتاج رؤيوي متقدم للباحث، نشهد له عليه. نهنئه عليه.