” تقمص الأسطورة ”
الكاتب د. قصي الحسين يقرأ الروائي د. إلياس العطروني
-+-+-+-+-
الرواية، أكثر الأنواع الفنية والدينية، قدرة على تقمص الأسطورة. جميع أنواع الفن والدين، إنما تريد أن تتخذ من الأسطورة أجنحتها للتحليق عاليا. غير أن الرواية إستطاعت أن تبز جميع هذة الأنواع، أن تسبقها، أن تكون أكثر قدرة منها، على تقمص الأسطورة.
الأسطورة قوام كل عمل إبداعي، كل عمل فني، كل عمل تشكيلي، سواء كان من كهف الفنون، أو من كهف الدين. لكن الرواية وحدها، دون سائر هذة الأنواع، إنما هي من فضاء الأسطورة: من “شجرة الدلب” في لندن، أو من “سدرة المنتهى”، أو من شجرة “ذات أنواط”.
تقمص الأسطورة، إنما هو شأن الروائيين، دون غيرهم، من أصحاب الأنواع الفنية الأخرى، إذا ما سمونا، بالفرع الديني منها، إلى ما بعد بعد الفن، حيث علاقة النفس ببارئها، كما يقول أرسطو. ذلك لأن الروائي، إنما هو الرجل الأسطوري، الذي يمضي عمره، في نسج الأساطير حول نفسه. فإذا ما إستطاع إتمام شرنقته، شقها بلا شفقة ولا ندم، و طار منها لنسج أسطورة جديدة، في فضاء آخر من الفضاوات، حيث مهاجع الأساطير في الصحائف واللقى. يحضن أسطورة، غامزته وغامزها، ويطير بها، ليفككها كما الطفل، يفكك لعبته، ويعيد تركيبها من جديد.
بهذا المعنى يكون إلياس العطروني الأسطوري، بما هو روائي، هو من أكثر الروائيين إندغاما في الأسطورة. من أكثر الروائيين إلتحاما بها. من أكثر الروائيين تعبيرا عنها، إلى الحد الذي يجعل من كل عمل روائي من أعماله، إنما يصدر عن أسطورة محدثة.
إلياس العطروني، رجل أسطوري؟. نعم هو رجل أسطوري. لم لا. وهو الذي مضى على قدميه، منذ يفاعته، إلى حقول الأساطير، ولا تزال فخاخها عالقة به، علامة مبكرة، كعلامة جرح قديم يعود إلى زمن الطفولة. بل هو الذي صنع لنفسه جناحين، قبل “عباس بن فرناس”، ليحلق بهما حيثما شاء من فضاوات الأساطير.
ولأن الشخصانية الأسطورية المكتسبة، عند إلياس العطروني، قد لابسته مبكرا في الصعود، وفي الهبوط، فقد أخرجها من جوفه، نفسه بنفسه، نسيجا عنكوبيا، جاعلا من غزله، مصعدا روحيا له، للصعود إلى الذرى، في موسم قطاف الغيوم، ثم للنزول إلى القيعان، ومتابعة أقرانه واللعب معهم كطفل، ولو على حصان خشبي.
هذا هو حقا، إلياس العطروني، قبل روايته: عروس الخضر- 1992، وبعدها إلى اليوم. لم يتغير علينا. بل كانت مآتيه الروائية تتشكل في كل مرة ، في صيغة أسطورة جديدة. نسمعه يقول مفتتحا عمله الروائي: أسطورة الخضر:
“راح الرجل يتسرب من تحت الردم، خفيفا كالأبخرة، ينسل من ذرات التراب الذي تكوم فجأة، ينسل بإتجاه الضوء، الغبار يسد مسام المكان والزمان، ورائحة بارود ثقيلة وحادة، تتسلل إليه كواقع أسود. لم يستطع تحسس جسده، قيود التراب والإسمنت المفتت وأسلاك الحديد القديم، تكبل حتى أنفاسه، لكنه ينسل.”( ص٧).
جسد أسطوري، هبط فجأة في الأرض. راكمته الأسطورة دما/ ماء، وترابا، وبخارا وضوءا. جعلت منه رجلا من العماليق، بطول ظل شارع. جعلت منه رجلا أسطوريا مكبلا، يشق قيوده بأنفاسه، ينفك عنه، ثم إذ هي تصعده، ليرى المدينة الأسطورية المقتولة ، من فوق.
يتابع العطروني سرد أسطورته. يشكلها. يجعل لها عناصر أقوى من غموض الأسطورة. وأقوى من قانون جاذبيتها. فقد غاص فيها حتى لابسته ولابسها. ثم خرج منها، وقد علق بشباكها الأسطورية، وهي تغفو، غفو الأسطوري، على كتف الشاطئ، وشرشف البحر. نراه يقول:
“بدأت المدينة بالغفو. إنهما يتجهان إلى زرقة المياه الداكنة، والكوخ المهجور يقترب. ثلاث درجات للدخول إلى الكوخ، هي ليست درجات، بالمعنى المعروف. إنها شيء متدرج، أحدثه الحفر الصابر، في ضخور متآكلة. أضواء الصيادين في عرض البحر تتلألأ كنجوم ضالة. والعتمة شبه كاملة، لولا بقايا أنوار ترسلها البنايات البعيدة، والتعثر سيحصل حتما، الشاب يدرك ذلك. ولولا ضوء ولاعته المتراقص، لحصل. عين الضوء يرتمي على الباب الخشبي المتشقق، وهو يبحث عن ثقب متأكد من وجوده. تبين أنه مسدود بصحيفة قديمة. مد إصبعه إلى الداخل وضغط عتلة. كذلك فكر دكر شمس، ودفع الباب الذي إنفرج بليونة عن رائحة مألوفة”( ص22).
لا تستطيع الرواية، أن تحلق، إلا إذا إنطلقت من قاعدة، يشكلها الروائي لها، على صورة منصة، حتى تطير منها، وتعلو وتحلق، وتخترق ربما جدار الأرض، وتدور مع أساطير القدماء، تلعب معها، وكأنها من زمنها. لهذا نجح إلياس العطروني، حين جعل مدينته بيروت، عروس الخضر، عروس مار جورجيوس، على شفا إنتظار، أو على شفا إنهيار، أو على شفا مفاجأة أسطورية، تقلب المقاييس. تجعل المستحيل ممكنا. وتجعل من الممكن أمرا مستحيلا. نستمع للراوي يسجل على لوحه، فيقول:
” ينظر ألى السماء المغبرة ويتمتم. كأنه يعد أو يسبح. على الأرض، ظهره إلى جدار الكوخ وجذعه يشكل علامة نصر مسترخية.” ويتابع يقول:
” الليل دون قمر أهدأ. لضوء القمر بعض الضجيج”. ثم يقول: النجوم هنا أكثر يا حاج؟ أم في العرقوب؟.” ( ص77).
أسطرة الواقع، كما أسطرة الوقائع، لمما يجعل من الروائي رجلا أسطوريا، ويجعل من عمله الفني الروائي، من لقاح الأساطير. وربما كان الروائي، في شغل عن ذلك، وهو يتابع أدق التفاصيل في عمله، غير أنه سرعان، ما يخرج الأسطوري من أعماقه، ويقول له كفى مهزلة!. أين أثوابي القديمة.؟ أين أمتعتي العملاقة. أين الأقانيم الكبرى، في معادلة البناء الروائي. فكل هذا نجده متوافرا، في إبداع الياس العطروني، حين يكون مع محروسة الخضر/ مارجورجيوس. فهو يقول:
” تلك اليد التي تسكن نومه، في زيارتها الشبيهة بالإقامة، تظهر ككابوس، وإن لم تكن كذلك. ما إن يدخل ملكوت نومه، حتى تظهر، معروقة وبأصابع طويلة وناحلة. تلوح بهدوء من فوق سطح ماء ساكن، مياه بحر عميقة. زرقتها الداكنة تقول ذلك. تستمر بالتلويح حتى يستفيق. لا مذعورا ولا حتى منزعجا، ولا منشرحا. يستفيق متسائلا… في كل مرة تضيف كومة أسئلة. شهور كثيرة مرت ولم يستطع فهم تلويحها. أحيانا يفهمها إستنجادا وأخرى وداعا. وكأن الفرق ما بين الإستنجاد والوداع بسيط. في الحالتين يستفيق متسائلا.” ( ص157).
تقمص العطروني أسطورته بيروت في عروس الخضر، ومشى بها فوق أزماتها اليومية. أسطورة ، مدينة بيروت. لكنها أسطرة مأزومة. تتعالى، فتسقط. وتركض فتتعثر. وتطير فتهوي. ناسها من أبناء الأساطير القديمة، ولو كان لهم شبهة مع أبناء المدن اليوم. يخرجون كل صباح، لعد أصابع يديهم. لعد موتاهم. لعد قتلاهم. لعد القذائف التي تسقط عليهم. مثقلون بالجراح وبالنبال. لكنهم في عرس دائم، لأن مدينتهم هي أصلا عروس الخضر. يقول العطروني:
عندما أخبرني عارف بمعلوماته، حول عملاء إسرائيل نقلتها إليه. لمحمود. صرت واسطة نقل. بوسطجي. لكنني كنت أمارس ذلك بسعادة. وحين أخذوا يتصرفون حيالهم ونقرأ ذلك في الصحف. ونشاهد الصور، كانت فرحتي تعظم لأنني كنت على معرفة مسبقة بذلك. المعرفة تسبب الفرحة..”( ص258).
رجل الأساطير، إلياس العطروني. يصوغ روايته. يصنعها. يحتفي بها. ينظر إليها، فإذا هي حياته. فإذا هي خطواته. فإذا هي دمه. قلبه. أنفاسه بين يديه. ينسج خيطانها من جوفه، يجعل منها شرنقته. وحين يتم عمله. يشقها، فتطير منها روحه فراشة، ترمي أساطيرها خلفها، وتدعنا ناهو بألوانها وخيطانها. وكلما شددناها إلى الأرض، حلقة مثل طيارة طفل صغير. نسمعه يقول:
” تتكلم جانين كثيرا. وفي أمور كثيرة. تنتقل من حديث إلى آخر بسرعة وبتر. تبحث عن الشجاعة في صوتها. فكر. المدينة تستقبل ليلها اليوم بشجاعتها المعتادة، وهما يبحثان عن شجاعة إستثنائية… الخوف عندما يتراكم لا يبقى هو ذاته. تستجد في كل طبقة جديدة نوعية مختلفة، فتستجد معها نكهة جديدة… المدينة تبدو في البعيد كومة غموض متداخلة وملتحمة… قطيع الكلاب الشاردة، يهرول بجدية مضحكة بإتجاه الشاطئ. والهر الرمادي يراقب من جديد.” (ص293 – 300.).
إلياس العطروني، أكثر من رجل أسطوري، لأن جميع الأساطير مرت ببابه، فكانت تتقمصه وتسير به، من بلاد إلى بلاد. ومن سفر إلى سفر. ومن أفق إلى أفق. ينزل أحماله عن كتفيه، ثم يجلس في ظلها يكتال الريح، مثل عمود مسحور ينتصب بين الأرض والسماء.