بهجة الشعر
لا أعرف في الدنيا بهجة تعادل بهجة الشعر بأبنائه، إلا بهجة الربيع بالطبيعة. تراه يحتفي بها. يوزع عليها الجوائز:الأوراق والبراعم والأزهار والثمار. يفرع غصون الأشجار، ويلف جذوعها ليجعلها أقوى. يفجر ينابيعها، ويتوج الجبال بالتيجان الملوكية، لتشهد على أعظم غبطتين في الأرض: غبطة الشعر بأبنائه. وغبطة الربيع بالطبيعة.
الشعر ربيع العالم. فهل في الدنيا كلها، من يملأ النفوس بهجة غير الشعر. تراه يغشى الناس، كل الناس، بعطره. بغمامه. بالفرح وبالزهو وبالتيه. وبالعظمة أيضا. يغمر الناس جميعا بالفرح، مثل طوف من القمح، يملأ قلوبهم بالأمل. ويجعلهم أكثر حضورا، في كل ناحية. وفي كل برية. وفي كل نبع. يفتح عروقهم وأوداجهم. يزين وجناتهم بالورد. ويطلقهم من مملكته، ملوكا كلهم. لا عبيد بينهم. يساوي بين الناس على طبق الملوكية. يجعل لكل؛ تويجه في قلبه. يوزع ماله، كما الغمامة الماطرة على أبنائه، فلا يشعر أي منهم بأي إغماط ولا غمط.
لا أعرف مرضا في الدنيا، يدخل البهجة إلى نفوس مرضاه، مثل مرض الشعر. يمرض أحدنا بالشعر، فتراه يشرئب فجأة. يكثر تفتحه، مثل “شجرة المفاجئة”. تغمره الأوراق فجأة. يدثر بها، عن الناس. ثم يخرج منذرا. يغدق فرحه بالشعر عليهم. يستأنيهم قليلا. يقول لهم: خذوا ملء أيديكم، من فرح الشعر.
مملكة الشعر دون غيرها، توحد بين الناس، من كل الأنواع، ومن كل الأجناس. فلا كبير، ولا صغير. لا غني ولا فقير. لا إرث يفرق بين أبناء مملكة الشعر، من أي نوع، ومن أي لون، ومن أي ضرب. أبناء مملكة الشعر في نفوسهم، سواسية كأسنان المشط. يجمع بينهم رحم راحم: رحم الشعر.
التواصي بالشعر، واجب وطني. واجب إنساني. واجب أممي. التواصي بالشعر، واجب أسري واجب عائلي. لأن بهجته، حياة مختلفة. لأن بهجته أسرار مختلفة. لأن بهجته، بهجة مال. بهجة عيال. بهجة بهيجة جد مختلفة.
دعاة الشعر طيبون مثل الطيور التي تهتف بأجنحتها من بعيد. دعاة الشعر، مثل هتاف الأجنحة، يغمر الناس بكل فأل وبكل خير. وبأن الشمس، إنما هي دفء أجنحتهم، وبأن الهواء، هو بعض نسائم الحرية. دعاة الشعر لهذا، هم طيبون.
في مملكة الشعر، الناس جميعهم أسياد. يأبى الشعر على نفسه، أن يخضع الرقاب. يتأبى بكل حرية خضوع الرقاب. لا خنوع في مملكة الشعر، لأنه شمس وحرية.
ترى الشعراء يباكرون الناس، في غدوهم. يعلقون على صدورهم ياقة الشعر، تميمة فأل وخير. فيمتلئ الوطاب بلبن العصافير، وتصير كوكبة الفلاحين، جوقة عيد في البذار والسقي والحصاد. ويصير لهم عيد الحصاد.
بهجة الشعر لوثة. تصيب الناس، بلا حساب. تصيب الناس أينما كانوا. وأنى كانوا. تحملهم توا إلى مملكة الشعر، حتى يستريحوا مع التعب، في واحة الآمال العراض، التي تجعل من يدخلها، مريض فأل، حتى يوم الخير.
لوثة الشعر “غضبة مضرية”، على جنون العالم. على العالم المجنون. على الجنون نفسه: يستيقظ الأحقاد. يشن الحروب. يفرق بين الناس. يصادر أحلام الصغار. ويضرم النار في مهاجع النساء والعجائز والشيوخ. ويمنع الماء والرغيف والكتاب.
كل بهجة في العالم
هي شعر. وكلما إبتهج الناس، كلما إتسعت مملكة الشعر. يصير المرء عريض المنكبين، كحالم يعانق السماء. يأخذ “عصا الشعر” ويجعل منها عامود سماء، لكل من يسير بلا أفق. لكل من ينام بلا طعام. لكل من تقلقه رصاصة في الحلم.
المرء عريض المنكبين، في مملكة الشعر، يهدئ قلق العالم بالشعر. قصيدته ترس. مجن. درع واقية: لا يشعر بالخوف. لا يشعر بالقلق. كلماته وسادته، حين يتغشاه الموت.
لا بهجة أرقى من بهجة الشعر. لا بهجة أغنى من بهجة الشعر.
بسعة السموات كلها، وبسعة الأرضين كلها، بهجة شاعر يخطو بقدمين عاريتين، في الشارع. يتوقف قليلا. يصمت كثيرا. ينفث الشعر في وجوه الناس، ثم يغذ السير. يفتح باب مملكته، ببصمة عينيه، فتنفتح له شبابيك الجنان كلها. يأمر نفسه بإغلاقها على نفسه، ثم يجلس في إيوانه، بكل مهابة شاعر. بكل جلالة ملك. لأن أوانه الشعر وفي صدره بهجة الشعر.