الصحوة الشعرية
كل الأصوات تعلو في لبنان الغريق ، هذة الأيام ، إلا صوت الشعراء . إلا صوت الشعر . صار الشاعر غريق لبنان ، بعدما كان يصدح في الساحات ، لأزمان وأزمان.
كان الشاعر يحدو، أمام الفلاحين، أمام الموجوعين، أمام الفقراء، أمام الجوعى. كان الشاعر يحدو أمام المناضلين، أمام المجاهدين. كان الشاعر قرين كل مناضل، كل مجاهد، كل ثائر، ليس في لبنان وحسب، وإنما في شتى أرجاء الأرض.
فجأة غار صوت الشاعر في جوفه. لم نعد نسمع به شاعرا يداوي الجروح. لم نعد نسمع به، شاعرا يواسي أو يؤاخي الشهداء، أو يزور أهاليهم، أو يزور حتى مقابر الشهداء. أو يبكي محبوبة خسرت أهلها أو يبكي بلادا خسرت نفسها، في ظل الحروب.
لماذا غادر الشعراء أرض الجنوب. تركوا ساحاته فارغة من باقة شعر . تركوا القرى تشكو. تئن. تستمطر الرحمة. تستغيث. ولا من شاعر ينظر نحو الجنوب.
حقا، أين شعراء لبنان يعيشون اليوم؟. هل إمتنعوا عن الشعر؟. هل خسروا المعركة أمام السياج الحدودي. أمام بواباته الحديدية. أمام أسلاكه المكهربة. هل إستعاضت الحدود عن الحمام الزاجل، بالطائرات المسيرة؟.
لماذا إنطوى الشاعر على نفسه، وصار يهرب من الأسئلة. صار يهرب من حبه. صار يهرب من عشقه. صار يهرب محبوباته، إلى خارج الأقضية. صار يخشى على نفسه، من قذيفة ضلت طريقها إلى الحدود. من رصاصة ضلت طريقها إلى صدر العدو.
متى يصحو الشعر على نفسه أنه قتيل. متى يصحو الشاعر على نفسه، أنه يحتاج لمن يؤبنه على أرض الجنوب. متى يصحو الشعراء أنهم “غادروا من متردم”، ولم يبق لهم محبوبة . لم يبق لهم أثر محبوبة. لم يبق لهم منها، لا خيمة، و لا وتد ولا طنب. طارت قدرها، وطارت أثافيه وراءها، من أرض الجنوب.
قتيل بطول لبنان من الحدود إلى الحدود، هو الشعر، هو الشاعر. لم نعد نسمع عن شاعر، يجرؤ للعودة إلى شعره: خبأ حبه. خبأ أبياته. خبأ قصيدته. خبأ ديوانه. قال: سيظهر موسم الشعر بلا دعوة، حين تزهر أرض الجنوب. حين ينبت الأخضر على أكف الفلاحين، من رماد الرصاص الطائش، نزل عليهم من سماء رمادية: جدد عمر القضية.
لبنان اليوم يعاني من غفوة الشعر. من غفوة الشعراء. وجدوا أنفسهم فجأة بلا قضية. ما عاد الشاعر يجرؤ على رفع صوته. ما عاد يرى بين القنابل الدخانية، صورة محبوبة، صورة طفلة، تزرع التبغ. تجفف التبغ. تنسج من وريقات التبغ بذلتها. صارت القنابل الدخانية قضيتها. صار الدخان أقوى من كل قضية.
إعتاد اللبنانيون على عناق الشاعر. إعتادوا أن يرونه في ساحاتهم. على منابر الشعر. في البساتين والجلول والحقول. وعلى ضفاف الينابيع. وعند أقدام الجبل، يلثم الثلج، وينحني له. يأخذ شلحا من الأرز لوشاحه. ثم يزهو به. وعند غياب القمر، يأخذ بيرق الشعر، فيطويه. يجعله في عبه، ويغفو على غفوه، ويصحو على صحوه.
اللبنانيون اليوم، يبحثون عن صحوة الشعر، ليصحو لبنان من غفوته!