الحلقة -3- من سلسلة ” انعكاس ” للشاعرة والكاتبة د. لارا ملاك :
( ” مفهوم الإبداع “.. من وحي كتاب “الإبداع” لأوشو ..)
_______________________________
أيّها المبدعون، حين نرتحل تحملنا قدمان وجهتان، يمينٌ يسارٌ يقودان بعضهما، خَلْفٌ أمامٌ، وهجٌ ظلام. وما الّذي يرفعنا غير السّحر؟ لمْ تحملْنا أحلامٌ أو أمنيةٌ أو صلاة، بل قدمان. بهما نتحسّس التّراب، الطّينَ، البقاءَ المضني، العثرات… ضاجِعوا بعضَ الطّين وأنتم تطارحون الهواء، تشبّثوا أوّلًا ثمّ أقْلِعوا إلى فكرتِكُم الجليّة.
أيّها المبدعون، يقول لكُمْ “أوشو” في كتابه “الإبداع”، إنّ إبداعكم حرّيّةٌ، ووعيٌ، وبصيرةٌ، وحركةٌ دائمة.
أمّا أنا فأقول، المبدع هو البصيرة حين تحدّق الأرض في نفسها جيّدًا من دون خطايا ضبابيّة. هو مكبّر الصّوت حين تنصت الأبعادُ لشجرةٍ تسقط أو لورقةٍ ترفُّ على غصنٍ مليءٍ أو على وجهٍ شاحب.
هو جِلْدٌ يغطّي بِقاع المكان باستشعاراتٍ دقيقةٍ، حتّى يتحسّس الوجودُ نفسَه. هو الحرّيّة، لأنّه من يمدّ يده ليفتح الأقفاص، وقد لا ينجح كلّ مرّةٍ في فتحها، بَيْدَ أنّه محاولةٌ وامتدادٌ من لحمٍ ودمٍ نحو المُقفَل المحتوم.
هو الوعي، بل لحظةُ انتباهٍ مباغتةٌ عرفتْها سيرورةُ الوقت. منامٌ ناعمٌ في غفوةٍ طويلةٍ، وبقعُ حقيقةٍ ساطعةٌ في لوحةٍ. يقول الكلمة فيكون وعيَها، وتتمّةَ معناها.
المبدعُ استياءُ النّقصِ من المسافات الفارغة، وتمدّدٌ لطيفٌ في تجاويف العقل حتّى يتموّج الفكر وينتج طاقتَه المتجدّدة. هو شاعريّةُ القصيدة، فهو الّذي يجيد لفْظَ صميمِها، فيكون روحها النّابضة، وشَغَفها بنفسها. هو العصافير تحومُ ملءَ أجنحتِها فوق ظلال المعنى، تقيه زيفَ النّور. أو لعلّه شاعريّة البقاء القصوى حين يبلغ الوجود مداه في تردّدات القصيدة، أو في أبعاد اللّوحات أو في وقع الخطى حين يكون الجسد شغوفًا بالرّقص.
المبدع هو شاعريّة التّكوين المتّكئ على نفسه، فيردّد أنّ الخلْق خلّاقٌ جديد، وأنّ الإبداع شعور الأرض بفَرادتها كلّما وُلدَ شاعرٌ، وكلّما ولّد شاعرٌ المعنى. أمّا شاعريّة الولادة، فحَبَلٌ بألف فكرٍ يستجيب، ويندفع إلى رحم الأقوال الخالدة والصّور الّتي تجيد بناء الذّاكرة.
أيّها المبدعون، يقول فيكم أوشو إنّكم أصحاب فعلٍ، لا سلوك، وأصحاب قوّةٍ غامضةٍ عظمى. غير أنّكم فعل الحياة نفسها، وإرادة الفعل المتحرّرة فوق الرّيح وفوق الضّوء وبعدَ الحبّ. أنتم للفعل حرّيّته المثلى، وطاقة الوقت المتحرّك، تدفعون العقاربَ كلماتٍ شفيفةً في مدى الوجود الحقّ.
أنتم اللّحظة والأوانُ المتمدّد على الجسد، الملتصق بالرّوح. هكذا تكونون طفولةً نثرَتْ نفسَها حول الوقت حتّى أوقفته وجمّلته وأعتقتْهُ للخيال. أراكم انبساطَ السّاعة على جبين الإنسان، وطاقةً تفيض فتبلّل الأوهام بكثرتها.
بِكُمْ يحتفل الله، لأنّكم قربانُهُ وحكاياتُه المتجسّدة باستمرار. أنتم حفل الله الّذي تتّسع ابتسامتُه كلّما اقتربَ مبدعٌ من بَوحِهِ أكثر. وإبداعكم الوجود المطلَق، لأنّكم المتماهون في العطاء حتّى الاختفاء، وأقلامكم تملأ الصّلاة بسرّها حين تطليها بشفاهٍ مدرِكة. لا “أنا” تفقدُكم شفافيّةَ الاختفاء، أو وضوحَ التّجلّي، لأنّكم انسياب الأغنيات، لا انسيابَ دمٍ على حياة لحمٍ زائل.
وقد يكون أعظم ما نراه في المبدع، أنّه قوّةٌ غامضة، والمعرفة فيها واضحةٌ حتّى الالتباس بفعل الدّهشة، كالضّوء واضحٌ ومعروفٌ لدرجةٍ تفوق قدرة العين. هكذا تستطيع العين أن ترى من خلال الضّوء، لكنّها أضعف من أن تراه. أن ندرك المبدع، أي أن نعلم أنّه عصيان الأنا، والتّمرّد عليها وسحقها لتصير طحينًا في رغيف القصيدة العظيمة. أن نراه هو المختفي في نصّه أو في رقصه، لا عوائق بينه وبين الفنّ، يندمج به حتّى الصّمت. هو فرح الأرض، وصلاتها، واحتفالها، وحبّها، أو لعلّه طقوسها اليوميّة المرتَجَلة. هكذا، بلا توقيت أعياد، بلا مواعيد صلاةٍ تتأمّل الأرض نفسها، وتعيد تشكيل إيمانها مرّةً بعد مرّة.
في اسمه غياب النّمطيّة، ودعوةٌ مفتوحة للبدايات، وفيه اللّحظة الآنيّة الحيّة والذّكيّة، أو ربّما قلبٌ يقِظٌ أوقَدَه الشّغف.
أمّا الوعي، فالمبدع استجابته، ومرآته ونظّاراته وبؤبؤ عينه المفتوحة، وحضوره المفتوح على المدى. وأمّا السّرّ، فقرينه، معًا جانَبا المنطقَ، وقفَزا فوق صهوة الحياة الآليّة، نازَلا التّناقضَ، ليس ليغلباه، بل لينظرا في عينيه بلا وجلٍ أو بقليلٍ من الانكشاف الحرّ.
في حركته، يقظةُ الطّاقة أو إيقاظها، واندفاعها كي تتحوّل فتراقص نفسها وتبدّل نغماتها بلا ملل. هو التّجربة الّتي لا تنتهي ولا تتكرّر ولا تُستعاد، كحديقةٍ لا تهرم، لأنّها تيبسُ شتاءً لتنضر لاحقًا، فتخلق تربتَها ولا تناجي السّماءَ طمعًا بكمالها أو بروحيّتها المثلى.
المبدع شجاعةُ استقبال النّور بحبٍّ وليس بانبهار مصطنع، لتكون ملامسته جمالًا حقيقيًّا يشبه الشّوق بين إنسانٍ والحياة.
ليس المبدع مُحِبًّا للحياة فقط، بل هو موازٍ لها، وهو مرآتها، يعكس إشراقها كلَّ يومٍ وقابليّتها للاستمرار، وثقتها بكلّ جزءٍ من أجزائها، أو اكتمال كلّ دقيقةٍ منها بدقيقةٍ تالية. هو والحياة زمنان منطلقان بلا هوادة، لا منظور مقرّر يعرقل اندفاعهما، لهما المجهول المطلق والحركة المؤكّدة فيهما حتّى الأعماق. له حبّها حين ينظر فيها جيّدًا، ولها أن تعيد خلقه باحترافٍ وشغف.
هو المنفلتُ من السّيطرة، لأنّه يستمرّ في توليد معناه، يلد حتّى يمتلئ مرارًا دون أن يرسو على شكلٍ أو على مخاض، فينمو فيه الشّبَقُ المصهورُ بلغة الرّوح، ممّا يجعله حركةً تلاحق معناها لا يخيفها دبيب الموت ولا يؤذيها.
ينطلق مسرعًا حتّى لا يقوى التّاريخ على اللّحاق به، لأنّ المبدع يفهم التّاريخ ويراه، لكنّ التّاريخ يلمحه طيفًا أو ظلًّا متسلّلًا، فلا يحاول ملامسته إلّا متأخّرًا. المبدع هو اللّحظة الّتي تعيش نفسها لتصير زمنًا خاصًّا أو ارتعاشًا حاضرًا يهزّ المكان حتّى يوقظه. وكلّما حرّك المكانَ بإصبعه همسَت أصابعُ التّهمِ ضدّه، كلّما حرّك ساقه، عرقلتْهُ أقدام القابعين في الماضي، المتأخّرين عن الآتي. هكذا يرواحُ المبدعُ طفولته الّتي لا تثبتُ على حلمٍ، أو على حقيقةٍ، أو على شغف، يبني ذاكرته طاهرةً من توجّساتِ الزّائفين، ومن عقد المشوّهين، ومن تطلّعات الطّامعين بجزءٍ من وهم. يبني ذاكرته الحرّة ويتسلّق “أناه” حتّى تخلو من الحُجُب وتنصهر بالرّؤى.
المبدع إصغاءٌ يستعيد أذنيه كلّما شوّشتْ ضبابيّةٌ صفاءَه، يصمت طويلًا، وصمته عريُهُ أمام الملإ، أمام المعنى العظيم. يصغي حتّى يتلقّى الصّلاةَ بدلًا من أن يُطلقها فقط، ليصير جسدُه مَعْبدًا تدخله الأفكار، وتتكاثر فيه، ولا تتناسخ. هكذا، يكون وجوده محطّةً روحيّةً لولادة المعاني.
المبدع فرصةٌ نادرةٌ لإطلاق الشّاعريّة من حبسِها، هو وجَعُ الجدار، شِقُّه المؤلم، وعودةُ الألم إلى حائطٍ لتحريره من جموده، ومن انتصابه الفارغ، ومن مناعته المترهّلة قبالةَ الهواء الحيّ، وقبالةَ الأفكار. المبدع إذًا، خطٌّ زمنيٌّ متقدّمٌ لا ينكسر، ووعيٌ ليّنٌ يجيد بفطرتِهِ الحبّ.
شكرًا لرسالتك المبدعة الى الخليقة لقد اختصرت الحياة من الأزل إلى الأبد بمقال ملوّن بروائع المشاعر الممزوجة بالوقائع والإيمان والأحلام.اتمنى لكِ كل التوفيق مع فائق المحبة والاحترام 💐🙏🏼