“صراخ الأشجار”
( قصيدة للشاعر شوقي بزيع )
-×-×-×-×-
لو لم يكن في البدء إلا عشبةٌ مجهولةُ الأبوين
تسبح في مياهٍ ضحلةٍ
لحسبْتُها أمي
لو لم يكن في البدء غير أرومةٍ محروقةٍ
فوق الهشيم ،
لقاسمتْ رئتيّ حصتها من النيران ،
ذلك أنني منذ البداية لم أصخْ يوماً
لغير تنفًس الأوراق في صدري
وللنعناع وهْو يعوم كالسفن الصغيرةِ
فوق سطح طفولتي النائي
وما أبدتْه لي عينايَ من صوَرٍ وأشكالٍ
تعهٌد ضوؤه بتقطٌعٍ أضغاثَ
ما خلٌفته خلفي من الأشجار ،
حين ولدتُ تحت سماء برج الجديِ
هدهدني بقائمتيه مهدٌ من جذوع السنديانِ
مبقّعٌ بالدمع ،
ثم تكفّلتني بابتسامتها البتول شجيرةُ الدراق ،
والحبقُ الذي عرته فيما بعد
جائحةُ السنين المستبدةُ
كان يملأ راحتيّ بعطره الأخاذ ،
تحت سماء برج الجدي
ربّتني الغيومُ على طريقتها
وغنت لي بصوتٍ عندليبيّ العذوبةِ
أجمل الأنهار في برية الماضي البعيدْ
ولم يكن للريح من بيتٍ لتسكنه ،
لذلك خلْتها تستلّني من تحت إبط أبي
وتردفني على ظهر الجبال
لكي أشاطرها الاقامةَ في شتاءٍ
سوف يصبح بعد ذلكَ
معبَري الأرضي نحو الشعر
والحبْل الذي يصل الحروف بسرّة المعنى ،
ولم تبخل عليّ الأرض بالدوران ،
لم يبخل عليّ الخوف بالأشباح ،
ما بخلوا عليّ جميعهم ،
فعلى يديْ عشبٍ بدائيّ
تطوّق معصم القيعان خضرتُهُ
تعلمتُ القراءة باكراً ،
وعلى يديْ حجرٍ تنسك تحت صومعة المياه البكرِ
أحصيتُ النجومَ
وأدركتْتني شهوةٌ للحب حامضةُ المذاق،
في ذاك المهب اشتدّ عود صباي ،
كل قصائدي منقوعةٌ بحليب ذاك العالم الصيفيّ ،
كلٌ رؤاي أَكمَلَها تطايُر شَعر سنبلةٍ
على أفق الحنين ،
وكلٌ ما أشعلتُهُ في موقد الرغبات من حطبٍ
تدينُ لذلك الماضي شرارتُهُ ،
وحين نأيتُ فيما بعد
وامتصت ظلالي غابة الترحال
لم يسهر على منفايَ إلا شوك صبٌارٍ
تطوٌع للإحاطة باستغاثاتي المريرةِ
كلما أوغلتُ في ظمأي ،
وظلت زهرة الرمان ترمقني بحمرتها
الى أن غبتُ عن مرمى الطفولةِ ،
وحدها الأشجار أولتْني عنايتها
وراح حفيفها اليوميٌ يمخر ذكرياتي
مثل رتْلٍ من قبورٍ لا تكاد تُرى شواهدُها بأمٌ العين
يجدر بي إذن
وأنا ربيب جذوعها التعبى وتوأمها البعيدُ
بأن أقول لها :
سلامأً من صميم القلب
أيتها الجذور المطمئنةُ في صوامعها،
سلاماً أيها الطفل المطلٌ من البعيدِ
على أديم ترابه المهجورِ
مثل مجرٌةٍ من أوجهٍ مبقورة الأحشاءْ
سلاماً أيها الشجر الذي سأصبٌ ذات عشيةٍ خضراءَ
كالينبوع في أحضان تربته البتول ،
وأنت أيتها الحقول البور ،
أيتها البلاد المستعادة من رماد حرائق الماضي
كأنصبةٍ بلا موتى
سأبقى حارساً كالظلٌ مرتفعاتك المضمومة الأهداب
حول الشمس ،
أو متوسداً كظهيرةٍ كبدَ الحصى ،
أو غافياً مثل الطحالب تحت ليل مياهك العمياء
ْ