سلطة الشعر
تجربتي مع سلطة الشعر، تجربة خاصة. تجربة عامة أيضا. كنت حين أقرأ الشعر، أشعر أنني لبست ثوبه. وصرت كلما مشيت بعد قصيدة، أهتز، كما يهتز الغصن النضر للريح. كنت أشعر أن الريح، تجعلني أعلو على نفسي. أطير بها مع الغمام ، مع الحمام. أشعر أني “سارية ولا شيء يعلوني”.
كنت كلما قرأت الشعر، أهرب من الوجوه، حتى لا ترى جنوني. فما كنت حاضر الجواب بعد. ولم يصنفني الجاحظ، حتى اليوم، من “طبقة حاضري الجواب”. إنما أشعر، حين يسألني سائل عما بي بعد قراءة، لماذا لا يذهب السائل إلى نفسه ويذوق الشعر. ف”من يذق ير”.
كان الشعر يرقص طفولتي، كما يرقص سلك الهاتف، رفا من حمام. كان الشعر يطربني، فأصير جوقة صوفية، أو عرسا قرويا، أو هدير شلال ماء.
كان عمري دون العاشرة، حين نفرت كمهر، إلى البراري لنظم قصيدة للقائممقام. مكثوا يبحثون عني، وأنا أحلق بالشعر فوق الغمام. غادر ولم يسمع مني. إنما سمع عني. تلك أول شهادة للشعر، أنه أعظم من “الرسمي”.
كان الشعر يؤرقني. كان الشعر يقلقلني كما قربة الماء. كان إهابي، أرق من إهابها. كان الشعر يسيل من عيني، غب قصيدة كنت أقرؤها، كما ينز من عراقي قربة، على صفحتي فرس الماء.
لم أهجس طيلة عمري، إلا بشعر، يعيد إلي معنى جنوني. فارتاح أني مجنون شعر. سحرني. مسني، في لحظة كبرياء. فصرت أرى الشاعر، ممسوسا بالشعر، أعظم من ملك يزهو بعصا ملكه. يزهو بمن حوله من الرجال. كنت إذا بكيت، بكيت كشاعر. كنت إذا غضبت، غضبت كشاعر. كنت إذا رفضت، رفضت كشاعر. كنت أرى نفسي بسلطان على من حولي. سلطان شاعر خفي، في ثيابي.
كساني الشعر، هيبة الملوك. فما خشيت على نفسي، حين كانوا يخطرون لي، في دروسي. ولا حين كانوا يخطرون لي، وأنا مثل قفير مكسور بلا نحل ولا عسل.
كنت أزهو عليهم أنني شاعر. كنت أخاطبهم كشاعر. كنت أرد كشاعر، كانت لقيماتي تكفيني، لانها لقيمات شاعر.
صبي شاعر أرعن، كرأس جبل شامخ، لا تحط عليه، إلا النسور. إلا الغيوم. ولا تملأ عينه كل النجوم.
كذا كنت صبيا، بين إخوتي. وبين رفاق مدرستي. وبين أخوة الصف. كذا كنت مع أبي وأمي. كانوا يشفقون علي. كانوا يسرعون إلي. كانوا يجبرون خاطري، بلا “اللتيا” ولا “التي”.
كان لي منذ صغري، سلطة، ما عرفها من هم حولي، من باب البيت إلى باب المدرسة، إلى أبواب البساتين والبراري. كنت أسير بينهم بهيبتي: هيبة شاعر خفي، وهم لا يعرفون ماذا حملت في ثوبي. كنت أقول لنفسي: لا أكون أقل من ملك. أقل من شاعر.
ظل الملك في نظري حتى اليوم، هو الشاعر. خبأته عن عيون الناس ك”لقيا” ذات تيمة. أسحر بها الناس، وأدعوهم إلى مملكة الشعر، حتى يكبروا هناك في أفيائها، فلا تدوسهم الفيلة، ولا تزحمهم الخيول ولا الجمال.
أذكر مرة، وأنا أقف أمام أستاذ مادة الكيمياء في دار المعلمين، يؤنبني لغفلة عن الدرس، وإستغراقي في هم الشعر. قلت له، ألفته: “أنا شاعر.” مسني الشعر بخاطرة، فما قويت في برهتي.
تكرر ذلك معي، في كلية الآداب، وأنا مع المدير، يرفع صوته أمامي. يعنيني بأنه رآني في دكان أهلي. فقلت: لا يهمني الأمر. فأنا أين أكون، أكون الشاعر، وكل الناس دوني. الشاعر لا يعرف “الدونية” مهما رق للناس. الدونية كسوة لبعض الناس، الذين لا يرتدون تحت ثيابهم الخارجية سترة الشعر الواقية عن العيب والنقصان.
كنت ولا أزال، أشهد أن كل مولود يولد على فطرة الشعر، ثم إذ هو يصير الشاعر. يذهب إلى الشعر، كمن يذهب إلى الساحات الأخر: مجدا مجتهدا، صانعا مختصا. ولهذا أحس المتنبي نفسه، أمام سيف الدولة فقال له:
شاعر السيف خدنه شاعر اللفظ، كلانا رب المعاني الدقاق.
كنت من بين ستة تعاقدوا على تأسيس المنتدى الشعري، بطرابلس، اذكر منهم: ياسين الأيوبي وعبد الفتاح عكاري وأحمد الحمصي والمرحوم محمد قاسم ، وأنا. كنا نعقد الجلسات في بيوتنا، وينضم إلينا الشعراء. ونحيي الأمسيات، ونحضر للمواسم.
كنت يومها، أستاذا جامعيا يافعا. وكنا نعتزم بصورة دؤوبة، على الإجتماع الإسبوعي. يقرأ أحدنا ما كتب من شعر خلال ايام أسبوعه. كانت الأسابيع تمر مع الشعر، بحيث لا نسمع هدير الجبهات ولا أزيز الرصاص، ولا أصوات الإنفجارات. كان الشعر أقوى.
وأثناء الإجتياح الإسرائيلي للبنان، وإحتلاله العاصمة، “بلا مقاومة”، كنت قبل ذلك بقليل، بين أعضاء وفد جامعي، في بغداد. عدنا على وجه السرعة. وأول ما دعونا إليه: يومين من الشعر لجميع الشعراء في طرابلس والشمال، في مبنى الرابطة الثقافية، نرد على عار السلطة، مسها الإحتلال.
أكثر من ثلاثين شاعرا، تعاقبوا على الوقوف على منبر الرابطة الثقافية. أدلى كل واحد من الشعراء بدلوه. وكنت من بين الدلاء، أدلو بدلوي: قصيدة “عرش النار”. تحدثت فيها عن حروب الخليج قبل أن تقع لنا.
أذكر أن الشاعر رشيد درباس، وقف بإزائي، وهمس لي: “خرقتنا كلنا”. قلت له: الله يعوض عليكم. لن أقول الشعر بعد اليوم. هذة آخر قصيدة لي. سأكون بعد اليوم في الصف مع طلاب الجامعة، أكتب لهم مقرراتهم، وأحصد نجاحاتهم. أبدل على باب الجامعة تجربتي، لأن الشاعر يتأبى على الإحتلال.
توقفت فعلا، بعد توغل العدو في لبنان، تحت عيون الأخ والشقيق والصديق، عن قول الشعر. غادرت المنتدى الشعري. لم أصغ لأحد من الزملاء. أردى العدو الشعراء جميعا، في عيوني، حين غزا لبنان ودخل عاصمته. وإحتفظت بسلطة الشعر تحت ثيابي، على سلطة عاجزة. لإنها عجزت عن حماية سلطة الشعر. فلم ترد على الإحتلال.