التاريخ: 16/10/2021
المقال رقم: 44/2021
طاقــات الطفولــة الفلسطينيــة
بقلـم: رشـا بركــات– حكايــات رشـا (رايتـش)
“أعطونا الطفولي أعطونا الطفولي…”
تعاني فلسطين من أزمات متراكمة سببها النكبة أولًا وما تلاها ثانيًا. لكن، وبرغم كل المشاكل والمصاعب والحروب إلا أننا نرى طاقات نوعية على مستوى الشعب الفلسطيني بكامل أطيافه وأعماره.
حكايتي اليوم، عن طاقات الطفولة الفلسطينية ولكنني لن أسرد ولن أتطرق إلى أمثلة كثيرة وسأكتفي بالقليل ولأن هدفي واضح وخير الكلام ما قل ودلّ.
لقد كتبت سابقًا عن الطفولة الأسيرة، أي عن معاناة الأطفال الأسرى في سجون الإحتلال حيث أنني أشهرت صرختي بضرورة دعم قضية الأسرى كافة وتخصصت فيها بسرد حالتين من الأطفال الأسرى المحررين وذلك لتجسيد حالة الظلم الذي يعيشه الأسرى البواسل من خلال إلقاء الضوء على أقوى جهة وهي ناحية الأطفال.
في المقابل، هناك جهات تسعى لدعم الطفولة حول العالم وتقوم بتنسيقات حكومية برغم التقصير، ولفتني عمل اليونيسف في مجال التنمية لدى الأطفال في فلسطين حيث أنني قرأت تقريرًا صادرًا عن اليونيسف – فرع فلسطين وهو التالي:
“إنطلاقا من الأهمية والأولوية التي توليها الحكومة الفلسطينية للطفل الفلسطيني وتطبيقا للإستراتيجية الوطنية للتنمية والتدخل في مرحلة الطفولة المبكرة ٢٠١٧ – ٢٠٢٢، والتي تركز على تطوير تدخلات الدولة في مجالات الصحة والتغذية والتعليم والحماية، فقد تم تشكيل فريق وطني لتطوير مجموعة من المواد المرجعية للمهنيين العاملين في مجال رعاية وتنمية الطفولة المبكرة، حيث تضم منهاجاً لتعليم الوالدين ومنهاجاً لمربيات رياض الاطفال والحضانات، إضافة الى مجموعة من النشاطات اللازمة للرعاية المستجيبة للاحتياجات التطويرية والتدخل المبكر لدى الأطفال الذين يعانون من تأخر في التطور، أوالإعاقات وللعمل على ضرورة توفير بيئة آمنة وداعمة لاحتياجات الطفل التنموية والتطويرية والعمل على تأهيل مقدمي الرعاية للاستجابة لهذه الأهداف وضمان استمراريتها، وبالشراكة مع المؤسسات الوطنية والدولية وبدعم من منظمة الأمم المتحدة للطفولة – اليونيسف، وكون الأسرة تعتبر المعلم الأول ومصدر المعلومة للطفل في سنواته الأولى، فقد تم تطوير منهاج تعليم الوالدين وهو مكوّن رئيسي من أدوات التدخل المنهجي المبكّر لتعزيز نمو وتطوّر الطفل منذ الأيام والأشهر والسن الأولى من الحياة. يعتبر هذا المنهاج أحد الموارد المرجعية للمهنيين العاملين في مجال رعاية وحماية وتنمية الطفولة المبكرة ويستند هذا المنهاج الى مؤشرات النمو والتطور النموذجي للطفل من عمر يوم حتى ٣ سنوات، ويهدف لتوفير الدعم الكافي للوالدين وبناء قدراتهم من خلال الأنشطة المتنوعة مع أطفالهم كل حسب إحتياجه مما يساهم في توفير بيئة آمنة داعمة لاحتياجات الأطفال الإنمائية في مجالات التطورالمعرفي، الحركي، الانفعالي، الكلام ومهارات التواصل، والتنظيم الذاتي مما يساعد في تعزيز النمو والتطور بشكل سليم. ويوجه الأسرة للتركيز على النشاط المطلوب حسب حاجة الطفل”.
مجتمعنا الفلسطيني يحتاج لكثير من العمل والجهد المستمرين وإن خير المجتمعات وتقدمها هو في تنمية أجيالها وتوجيههم بالشكل الممنهج والمدروس. كذلك، فإن توظيف الطاقات وتطويرها أمر يحتاج لاستراتيجية تربوية وتنموية محكمة التناول في جميع الأصعدة.
تطرقت في مقالتي/حكايتي السابقة بعنوان “نول القصة الفلسطينية”، إلى المواهب في شق الكتابة والتعبير القصصي لدى الصغار وكذلك في حكاية بحثية أخرى بعنوان “البدو في فلسطين” كتبت عن أهمية البدو الفلسطينيين في العامل الإجتماعي والإبداعي والإقتصادي والتراثي. أما هذه الحكاية، فهي تجمع ما بين كل تلك الأمور لتربطهم بشخص طفلة عبقرية من أبناء بدو فلسطين، “صالحة حمدين”.
صالحة حمدين فازت بجائزة هانز كريستيان الدولية للقصة الخيالية من بين 1200 عمل من جميع أنحاء العالم عن قصتها “حنتوش”
رجوعًا لأهمية تطوير وتنمية وتوجيه الطاقات الفلسطينية وتوظيف هذه الطاقات في إطارها الصحيح، إن التركيز على بناء مجتمع سليم يكمن في تحفيز أطفاله وحسن رعايتهم عدا عن الإهتمام بطاقات كافة الأعمار ومن بينهم كبار السن.
الطفولة
كم تغنى العديد بحنينه لطفولته وكم قرأنا عن أشخاص تألموا في طفولتهم وبقي ألمهم معهم طيلة سنوات حياتهم…الأهم هنا، هو كيفية مواكبة الطفل المقهور لاستخراج العسل منه ليصبح رحيقًا مميزًا في مستقبله.
ومن الطبيعي أن نرى حالات نوعية تتحدى واقعها لتنبت منه الزهر وترمي بأشواكه. فالعالمي “أوناسيس” مثلًا الذي كان من كبار رجال الأعمال الناجحين، قال أنه عانى الكثير في طفولته حيث كان يعمل في القطار بينما لم يتجاوز عمره ال “سبع” سنوات. وصالحة حمدين الفلسطينية البدوية كتبت عن قصتها مع خيمتها وتربيتها للماشية واختصرت معاناة شعبنا الفلسطيني مع جنود الإحتلال بشكل “جعلها الفائزة الأولى بجائزة هانز كريستيان الدولية للقصة الخيالية من بين 1200 عمل من جميع أنحاء العالم”.
كتبت طفلتنا صالحة حمدين هذه القصة المؤثرة فكانت:
“ اسمي “صالحة”، أنا من مدرسة (عرب الجهالين)، أعيش في خيمة صغيرة في (وادي أبو هندي)، عمري 14 سنة. في النهار أدرس في مدرسة القصب، وقد صنعوها من القصب لأن الجنود أعلنوا أن أرضنا منطقة عسكرية مغلقة، حيث يتدربون على إطلاق النار في منطقة الزراعة.
يعيش معنا في الخيمة سبعون نعجة، وأقوم أنا بحلبها بعد أن أعود من المدرسة، وأصنع الجبن ثم أبيعه لأهل المدينة. الطريق هنا وعرة لأن الجنود يمنعوننا من تعبيد الطريق، ويتدربون على إطلاق النار في الليل، وأنا أكره صوت الرصاص، أكاد أجن منه، فأهرب، نعم أهرب.
لا يوجد لدي دراجة هوائية، لأن الطريق وعرة، ولا سيارة عندي ولا طيارة، لكن عندي شيء أستخدمه للهروب. اقتربوا، اقتربوا، سأوشوشكم سراً، عندي خروف يطير اسمه “حنتوش”، لونه أسود وأذناه طويلتان، له جناحان سريّان يخبئهما داخل الصوف، ويخرجهما حين أهمس في أذنيه يا حنتوش يا خروف أطلع جناحيك من تحت الصوف أغني في أذنيه، فيما يبدأ الجنود بالتدرب على إطلاق الرصاص، وأركبه ويطير بي، والبارحة هربنا إلى برشلونة. سنقول لكم شيئاً، في (وادي أبو هندي) لا يوجد ملاعب أصلاً، لأن الأرض مزروعة بالألغام.
وفي (برشلونة) قابلنا “ميسي” صاحب الأهداف الكبيرة، لعبنا معه لساعات طويلة، خروفي “حنتوش” كان واقفا حارساً للمرمى، وأنا أهاجم “ميسي” وفريقه، أدخلنا في مرماهم خمسة أهداف.
أراد “ميسي” أن يضمني أنا و”حنتوش” إلى فريق (برشلونة) لكننا رفضنا، نريد أن نعود إلى (أبو هندي) لأن الأغنام هناك تنتظرني فلا يذهب أحد غيري ليحلبها، فأبي في السجن منذ ست سنوات وبقي له تسع عشرة سنة. سأقول لكم سراً: أخبرني “ميسي” انه سيزور (وادي أبو هندي) بعد سنتين.*
سنقيم مونديال العام القادم في (وادي أبو هندي)، سننظف معاً الأرض من الألغام، وسنبني أكبر ملعب في العالم، وسنسميه “ملعب حنتوش”، وسيكون الخروف شعار المونديال.*
وأهلاً وسهلاً بكم جميعاً في (وادي أبو هندي)، نحن جميعاً بانتظاركم.“
هذه هي قصتها التي اختصرت حكاية قضية بأكملها وتناولت كل أبعادها، فوضعتنا نحن الأكبر منها سنًّا بموضع المقصّر لما تواجهه طفولة موطننا السليب من قهر وعدم استقرار، فسرحت بأفكاري وتذكرت كل أطفالنا النوعيين، منهم الطفل المبدع في الموسيقى والأداء والعالم في الرياضيات ومقدمة البرامج باللغتين العربية والإنكليزية والكتّاب والمصورين والمسرحيين والمبدعين بمجال العلوم ووجدتني أتذكر نفسي منذ 5 سنوات عندما شاهدت فيلمًا سينمائيا فلسطينيًا في مسرح مترو المدينة في الحمرا في بيروت، يحكي عن الاحتلال وعن مقاومتنا الشعبية وعن بيارات البرتقال بأبطاله الأطفال…تذكرتني وأنا أجهش بالبكاء في نصف المسرح تأثرًا بالمحتوى وإبداع أطفالنا الفلسطينيين…
نحن شعب صناعة الحياة، والحياة لا ولن تكون في فلسطين إلا إذا حرصنا واجتهدنا بتنمية ومواكبة “طاقات الطفولة الفلسطينية” النوعية عالميًا وعلى الصعيد الإنساني عامة…
سأكون دومًا مقصّرة بحكاياتي لأنها لن توفي هذا الشعب حقه…طاقات الطفولة الفلسطينية…