في لقاء مع “أفكار اغترابية” لمناسبة صدور جديدها “أغصان وجذور”
د. إلهام كلّاب: وطننا محفِّز لطاقات أهله المبدعين التي وإن ضاقت عليها الجغرافيا، أقامت لبنانًا آخر في مهجرها.
كتبت الإعلامية كلود أبو شقرا :
في صباح ربيعي أيقظ الطفلة شعاع متسلل من نافذتها المطلة على بحر جبيل وعلى القلعة والميناء والبيوت الأثرية، ناداها الأزرق المترامي، ركضت نحوه، لامست قدماها الصغيرتان برفق رمال الشاطئ الذهبي راسمة خطى في كل اتجاه، تأملت جماله غرقت في سحره، أخذتها أمواجه إلى عالم مسكونٌ بالغموض، وفي لحظة بوح صادقة، أخذت حصاة ورمتها، فارتسمت على المياه أمامها دوائر وسع أحلامها…
كبرت الطفلة ودخلت مرحلة المراهقة واتسعت دوائرها التي بقيت ترسم بها طموحاتها على صفحة الأزرق الصافي العابق بقصص وحكايات الحضارات المتعاقبة منذ آلاف السنوات…
مع بداية الشباب وسعيًا وراء حياة تحقق فيها حضورًا أبعد مما كان يرسم للفتاة في أواخر خمسينيات القرن الماضي، فارقت الصبية صديقها البحر بموجه وزبده اللذين بللا قدميها بمعمودية التاريخ، وملعب طفولتها في الميناء وقلعة جبيل وشوارع وأزقة المدينة، ويممت شطر بيروت للتخصص الجامعي ومنها إلى جامعة السوربون في باريس، وعادت بعد سنوات إلى مدينتها الأحب إلى قلبها دكتورة في تاريخ الفنون والأثار وأستاذة جامعية وناشطة في المجتمع المدني ورئيسة جمعيات ونوادٍ ثقافية ورئيسة جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان في بيروت (الأولى من نوعها في الشرق الأوسط) …
“أغصان وجذور” الصادر حديثًا عن دار نلسن في بيروت (لوحة الغلاف بريشة الرسامة التشكيلية رنا البساط)، يروي بعضًا من محطات الطفلة التي أسرّت إلى صديقها البحر تصميمها على رسم مستقبل تفتح فيه الطريق أمام الفتاة لتخرج عن إطار البيت الزوجي وتحقق حضورها الفاعل في المجتمع متمرّدة على العادات والتقاليد وقيودها…
الطفلة صديقة البحر والمتمردة والمتسلحة بإيمان والدها بضرورة أن يكون للمرأة دور مهمّ في المجتمع هي د. إلهام كلّاب التي أرادت من خلال كتابها الجديد أن تحث على التغيير في الذهنية السائدة التي نخرتها الطائفية البغيضة وعلى الانفتاح على الآخر عملا برسالة لبنان القائمة على العيش المشترك…
“أفكار اغترابية” زارت د. إلهام كلاب في منزلها في جبيل جار البحر الذي يستمر يهمس إليها “بوشوشات” حنين لزمن جميل وثّقته في كتابها من خلال صور ومشاهد وشخصيات تبقى أبهى ذكرى تتوهج مع كل يوم جديد وخفقة حب لعائلة نمت بالخير وترعرعت بالبركة وزرعت حولها إيمانًا لا يتزعزع بوطن خالد لا تقوى عليه المحن مهما قست… وكان لقاء من القلب.
-“أغصان وجذور” يصدر في وقت نحن بأمسّ الحاجة إلى التعلق بأغصاننا وجذورنا، هل هو فعل إيمان جديد بأرضنا وبإنساننا؟
أودّ بداية أن أشكر الإعلامية الصديقة كلود أبو شقرا على سعيها الحثيث، وفي مجلتكم الكريمة “أفكار اغترابية”، إلى ربط الوطن بأبنائه في المهجر، وبالتحديد من خلال الرابط الفكري والثقافي والإبداعي لإيمانها بأن لبنان الفكر والحرية هو من يسهم في انتشال الوطن من هوّة البؤس التي يعيشها اليوم.
نعم، لقد حاولت في اختيار عنوان الكتاب “أغصان وجذور” التأكيد على أن حرية انطلاق الأغصان هي ثمرة التزوّد من نسغ الجذور الحي.. كي لا تُعطب الجذور فتذبل الأغصان.
سعيت في هذا الكتاب إلى الاعتراف وإلى التعريف بتجربة حياة وعائلة لبنانية عاشت زهو لبنان ومحنه في محيط اجتماعي وثقافي وإنساني جذّر انتمائي كلما عمقت جذوري في غزارة القيم ورحابتها، وكلما تماهت أغصان حياتي بحرية الانطلاق وكرم الحياة ولذة الإبداع.
نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى استيحاء غنى ماضينا بحضاراته وقيمه وإلى الإيمان والسعي ولو بعيون دامعة إلى بناء المستقبل المرجو بآمال تعلو على كل حطام.
-الكتاب مراحل من سيرة ذاتية، مرسومة بمشاهد جميلة عن مجتمع بعاداته وتقاليده وتطوّره، هل يمكن القول إن الكتاب يتخطى ذاتية الطرح إلى شمولية الصورة لوطن وأرض كانا في ما مضى منبع الخير والجمال قبل أن تشوههما المؤامرات؟
هذا الكتاب هو مرحلة أولى من سيرتي الذاتية التي رويتها كرواية الحكواتي، إذاعيًا على إذاعة صوت لبنان. نامت هذه الشهادة في أدراج مكتبي إلى أن حفزني إلحاح الأصدقاء على نشرها الآن، ونحن نفتش عن الخبز أكثر مما نفتش عن الوردة لأنها، كما تقولين تتخطى ذاتية الرواية إلى شمولية صورة الوطن بزمنه الجميل والخيّر في عاداته وتقاليده وتطوّره وإلفة مجتمعه، فالعائلة في لبنان هي لبنان المصغّر… وهذا التاريخ الصغير يأتمننا على كنز إنساني كبير حاكته الأجيال بصدق ونقاء وتفاعل، ويزكي فينا الأمل المتواتر.
وكما أن الحضارات الماضية التي انطلقت من هذه الأرض، بهتت أسماء حكامها، بينما كرّمت وحفظت تراث مبدعيها، فالحكام والساسة مراحل عابرة ولكن الإنسان… الإنسان اللبناني بما يكتنز من ماضٍ وقيم ومبادرة وتفاعل، هو الثروة الإنسانيّة، المكبوتة، اليوم، والتي نتمنى ألا يخبو شعاعها، بعد حطام العاصفة…
– في الكتاب محطات مهمة عن دور الأهل في رسم مستقبل أولادهم فوالدك كان السبّاق إلى تشجيع أولاده على طلب العلم لا سيما بناته وحماسته لإرسالك إلى باريس للتخصص في السوربون في ستينيات القرن الماضي متمردًا على التقاليد التي كانت تفرض على الفتاة أن تكون حدودها القصوى البيت الزوجي. إلى أي مدى تغيّرت صورة الأهل بين الأمس واليوم؟
أنا أدين لأهلي كثيرًا في انطلاقتي نحو فضاءات لم أحلم بها، كما في ما حققت من إنجاز ونجاح… كانت أمي وفي عشرينيات القرن العشرين، خلافًا لجيلها، قد درست في العاصمة بيروت وتمرّست بالثقافة واللغات، وكان أبي فنانًا في صناعة الموبيليا ورؤيوي النظرة في عشقه للكتاب والمعرفة والعلم، وخاصة تعليم الفتيات في خمسينيات القرن العشرين… كنا ست بنات وثلاثة صبيان نملأ البيت ضجيجًا وحماسة وكتبًا… وكان لي الحظ أن يرسلني والدي وحدي وبجرأة إيمانه بي لتحضير الدكتوراه في السوربون في باريس، في مرحلة كانت الحدود القصوى لزميلاتي البيت الزوجي.
كان يحفزني على النجاح، ليس فقط لتحقيق وجودي العلمي والإنساني، بل لأفتح الطريق بسهولة أمام فتيات جيلي ومن بعدي، فلا يكبح الأهل جماح موهبة أو طموح.
اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن، تبدّلت كثيرًا صورة الأهل كما تبدلت مفاهيم المجتمع، ومن عملي ونضالي في سبيل النساء تابعت هذا التحوّل الذي آمن بقوة العلم كما بقدرة النساء وإمكاناتهن. اليوم أكثر من نصف قضاة لبنان من النساء حيال تقاليد كانت تعتبر شهادة المرأة في المحاكم نصف شهادة، وغزت النساء كل الجامعات والإدارات والمصارف، وأصبح سفر النساء للدراسة أو للعمل سهلا للغاية، ولكني لا أزال ألمح في أعين الأهل قلقًا، لم ألمحه في عيني والدي عندما سلحني بثقته وإيمانه بأهمية التعليم وقدرات النساء.
– يتضمن الكتاب تجاربك في الحياة لا سيما في الزواج المختلط (تزوجت في سبعينيات القرن الماضي د. هشام البساط المسلم السني وأنت المارونية المولودة في عمشيت والمترعرعة في جبيل)، كيف تختصرين هذه التجربة؟
في سبعينيات القرن الماضي، وكنت مشبعة بكل ما أتاحته لي الحياة وبسخاء في مجال المعرفة واكتشاف العالم، واللقاء الإنساني والعلم والعمل، كما كنت مشبعة بما تذوقته في جامعات باريس من مفاهيم الحرية والمساواة والأخوّة، التقيت بشاب لبناني درس مثلي في فرنسا، وتلاقينا على مدارج القيم والمفاهيم والثقافة والرحابة الإنسانية وقررنا الزواج هشام البساط وأنا، وعندها اكتشفنا أن دستورنا المدني إنما يخضع في قوانين الأحوال الشخصية لأكثر من دزينة قوانين دينية ومذهبية لا تحظى فيها النساء غالبًا بتشريعات متساوية أو موازية في دورها العائلي الكبير…
كانت تلك المرحلة في لبنان، انطلاقًا نحو الحداثة في كل المجالات، لذا كان الزواج المدني المعترف به في لبنان إذا ما أقيم على أرض بلد مجاور وهو قبرص، طريقنا الوحيد إلى قانون يحمي كرامة المرأة وكرامة الرجل معًا، ويحتفظ لكل منهما بهويته وانتمائه ويزكّي توق المشاركة والتفاعل.
كانت تجربة حياة رائعة، عشناها بصدق وشفافية وتقدير متبادل. كنا جسر عبور في مجتمعاتنا، كما كنا مجال لقاء وحوار واحترام، ونموذجًا للعديد من الشباب.
لقد تميّز زوجي برقيّه ونقائه ورحابته وسمو سيرته الإنسانية والعملية، واليوم، وقد غادر هذه الحياة منذ سنة أذكره بشوق وحب، وبفخر وتقدير وامتنان على سنوات حياتنا الرائعة التي تمحو كآبة الحزن والدمع.
– هل قصدت من وراء ذلك التأكيد أن وجه لبنان الحقيقي هو التعايش بين مكوناته وليس مظاهر التشويه التي حاولت المؤامرات إلصاقها به؟
اسمحي لي ان استفيض بالقول إن وجه لبنان الحقيقي هو هذه الحياة المشتركة التي تجمع فيسماتها وعاداتها وأحزانها وأفراحها ومفاهيمها كل لبنان، ويسهم الانتماء الديني العميق بمفاهيمه عن الأخوّة والمساندة والمحبة ورحابة النفس في تجذير هذا اللقاء الحميم.
لقد اعتاد اللبناني وهو ابن الموجة أي ابن الشاطئ وحفيد كل الحضارات التي تعاقبت على موانئه، ألا يخاف المختلف واعتاد على الترحاب بالقريب والغريب وهو ما صقل نفسه، كما صقلت أمواج الشاطئ حصاه، وأغناه بإمكانية التثاقف والتفاعل ومدى الحرية.
إن الانتماء الديني ليس ملكًا للطوائف المتناحرة في عصبياتها وانحدارها الروحي، كما أن السياسة ليست ملكًا لرجال يتناحرون على السلطة والقوة… إنما السياسة في حسن الإدارة والخدمة والإيمان الحقيقي هو في محبة ونجدة الإنسان الآخر مهما كان انتماؤه… فالإنسان صنيعة الله… وإن كرمته كرمت الله.
– من يطالع الكتاب يكوّن صورة عن شخصيتك وعنوانها التمرّد والنضال في سبيل الحق وضد الظلم لا سيما ضد المرأة، فهل ترك هذا التمرّد بصمة في عقلية وواقع المرأة في مجتمعنا الذكوري؟
– تطرحين عليّ سؤالا طرحته على نفسي طوال حياتي التي حاولت أن تكون شهادة ناجحة عن إمكانات النساء ونضالا لتحقيق معنى الحرية الحقيقية والمساواة العادلة، والتمكين الاقتصادي، وتحقيق النوع الاجتماعي في كل موقع سياسي وإداري.
من الأكيد أنني كنت من المحظوظات وأن تشجيع الأهل أطلقني نحو هذا النضال في سبيل أي قضية عادلة ومنها قضية النساء في المجتمع الشرقي.
منذ الستينيات وأنا أعمل وأكتب وأواجه، بالعمل والقلم والفكر والتظاهر والمطالبات، كما رأست جمعية هامة هي جمعية تنظيم الأسرة ولجنة المرأة العربية فيها، حيث عملت انطلاقًا من صحة النساء، ليس فقط الجسدية بل النفسية، وفي محور أساسي في مجال تحررها، وأرأس الآن جمعية اللبنانيات الجامعيات التي تعنى بتعليم النساء، وبالعنف الأسري وبالتموضع السياسي للمرأة، كما عملت على تطوير صورة المرأة في الكتب المدرسية الوطنية وأصدرت كتابًا عن هذا الموضوع، وعملت في جمعيات قاومت بطرق مبتدعة عنف الحرب الأهلية، وعملت على تطوير القوانين والأعراف، وتدريب النساء على الإنتاج، واستعادة التراث بأيدي النساء.
إنما في لبنان لا تزال السياسة ذكورية بامتياز حيث تصل النساء بمشقّة وحسب الظروف إلى بعض مراكز النيابة أو الوزارة على الرغم من تميّز النساء اللبنانيات بالتعليم العالي والمقدرة والمسؤولية والوطنية، ربما لأن السياسي في بلادنا لا يزال سلطة وهيمنة ولم يتحوّل بعد إلى خدمة عامة تتجلى في تواضع الكبار…
– الكتاب رحلة ممتعة في أزقة عمشيت وأحياء جبيل وتراثها العريق وبيروت الازدهار وباريس الثورة الشبابية وبعض ملامح عن فترة الحرب في لبنان والظواهر الطائفية المصطنعة التي فرضتها، فهل قصدت أن يكون الكتاب واحة جمال وحياة في وقت بتنا نفتقد فيه إلى مقومات أمل وإشراقة مستقبل أفضل؟
لقد قلت في مقدّمة الكتاب الذي أنقل فيه زهو الفرح ولطف الحياة حيال تعاسة الحاضر وانهيار الآمال وأحزان القلوب، إنني أخشى أن يكون نشره في هذا الوقت كاحتفال عرس في كاتدرائية مهدمة أو كافتقاد بتلات ورد قديمة حفظناها بين دفتي كتاب أثير.. لاستعادة حنين ما… عبير ما… هذا النص جزء من تاريخ حياتي، أتمنى صياغة مراحله التالية في ما تبقى لي من عمر، ولكنني أوردتها صورة جقيقية عن لبنان الجميل وعن روحه الحرة المنطلقة كما استطعت عيشها وكما أغدقت عليّ الحياة من نعمها…
قصدتها واحة جمال وحياة، قصدتها ونحن في هاوية السقوط كي لا نفقد الأمل… ولو لاح كنجمة بعيدة.
– أخيرًا ما الرسالة التي تودين توجيهها من الكتاب؟
رسالتي في هذا الكتاب أن لبنان أرض من ذهب وتبر ولو لطخها تراب عابر. هي أرض تآخٍ وحوار وتفاعل وكرم ولو أخفتت أصواتنا نبرات عنف ورنين سلاح .
إن لبنان وطن رائع ليس لنفسه وحسب بل للإنسانية جمعاء، وطن التنوع الخلاق في الطبيعة كما في الناس، الوطن المبدع المحفز لطاقات أهله المبدعين التي وإن ضاقت عليها الجغرافيا، أقامت لبنانًا آخر في مهجرها .
رسالتي أن المحبة هي القيمة العظمى في الإنسان، مهما علت المراتب ومهما قست الدنيا، وأن الإنسان اللبناني الذي يختزن في ترابه كما في خلايا جسده وروحه، حضارات العالم، وتعاليم الأجداد ومفاجآت الحياة ومعاركة الحروب، وتذوق السلام، قادر على أن يرفع رأسه فوق ركام المصائب وعلى مدّ ذراعيه نحو العالم، في مصافحة وسلام وجهد مشترك.
هذا ما أشهد به غالبًا أمام طلابي بعد حوالى خمسين سنة من التعليم الجامعي وأنقلها إلى محيطي وعائلتي بفخر دون تبجح وبتسامٍ دون مغالاة.