….في حوار أجراه معها الإعلامي محمد توفيق كريزم لوكالة أنباء المرأة ( wonew. net ) أكدت الشاعرة د. دورين نصر سعد ردا على سلسلة من الأسئلة حول دور اللغة العربية في الوقوف الى جانب المرأة أو ضدها , أنّ الأدب العربي وان تجاهل دور المرأة إلا أنها تجاوزت الامر وعملت على تثبيت نفسها من أجل الحصول على حقوقها وحريتها .
هنا النص الكامل للحوار الصحافي الذي أتى بمثابة دراسة هامة ووثيقة أدبية تُعنى بشؤون المرأة وشجونها :
هل اللّغة العربيّة متحيّزة ضدّ المرأة؟
سؤال عميق يستدعي البحث والتّحليل والنّقاش، إذ اعتبر بعض الباحثين أنّ اللّغة العربيّة ضدّ المرأة. وقد استند بعضهم إلى ما قاله الثّعالبيّ في كتابه فقه اللّغة: “وَلدُ كلِّ سبعٍ: جرو، وَلَد كلِّ وحشيّةٍ: طلًا، ولد كلّ طائر: فرخٌ”.
ويذكر لنا التّراث في كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهانيّ، أنّ أبا الأسود الدّؤليّ سمع ابنته تقول: ما أجملُ السّماء! بضمّ اللّام في “أجمل”. فقال لها: النّجوم؟ قالت الابنة: بل أتعجّب من السّماء؛ فقال لها: قولي ما أجملَ السّماء بفتح اللّام في “أجمل”. استنادًا إلى هذه الحكاية، وضع الدّؤليّ النّحو العربيّ، وكان بابه الأوّل في التّعجّب وأفعال التّفضيل.
ما الذي نستنتجه؟ أهي مجرّد حكاية وضعت لتفسّر نشأة النّحو العربيّ؟ أم كما يقول البعض إنّها تشير إلى تحيّز النّحاة العرب ضدّ المرأة الذين ربطوا اللّحن بها؟
ويذكر ابن الأنباريّ في كتابة “البُلغة” أنّ أصل الأسماء التّذكير والتأنيث ثان له. وفي المنحى نفسه يقول سيبويه: الأشياء كلّها أصلها التّذكير ثمّ تختصّ. كما يقول أبو حيّان التّوحيديّ في كتابه الهوامل والشّوامل: كلّ مؤنّث أصله مذكّر في اللّغة العربيّة.
إضافة إلى ذلك، يُرجع نصر حامد أبو زيد في كتابه: “دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة”، جذور العنصريّة التي تواجهها المرأة في مجتمعاتنا العربيّة إلى بنية اللّغة العربيّة التي جعلت من الاسم العربيّ المؤنّث موازيًا للاسم الأعجميّ من حيث القيمة التّصنيفيّة. كما يردف قائلًا إنّ وجود رجلٍ واحد في سياق ما يؤدّي إلى إلغاء مجتمع كامل من النّساء.
نتبيّن ممّا سبق أنّ المذكّر هو الأصل في اللّغة العربيّة، أمّا النّظريّات اللّسانيّة فتقول بالحتميّة اللّغويّة، وإنّ الإنسان أسير لغته، لا يستطيع رؤية العالم إلّا من خلالها. وقد اعتبر “ستيفن بينكر” المختصّ بعلم النّفس اللّغويّ أنّ فكرة قولبة اللّغات ليست مقنعة إلّا حين كان العلماء يجهلون كيف يعمل التّفكير. أمّا الآن، فقد استطاع علماء الإدراك معرفة كيفيّة التّفكير وكيفيّة التّصرّف.
كما بتنا نرى تغيّرًا ملحوظًا سواء في منشورات مواقع التّواصل الاجتماعيّ، أو في التّقارير الإعلاميّة، أو في المؤسّسات التي أصبحت تُبرز الصّيغة اللّغويّة الأنثويّة في محتواها. ما يجعلنا بحاجة ماسّة إلى إدراكٍ واعٍ وحقيقيّ لكيفيّة استخدامنا للكلمات وللّغة لجعلهما أكثر مرونة لمواكبة الوعي النّسويّ.
فإذا كانت اللّغة العربيّة بطبيعتها متحيّزة ضدّ المرأة، فكيف يمكن للمرأة في الزّمن الحالي أن تسهم في تغيير القوالب النّمطيّة والاجتماعيّة التي تدعمها اللّغة؟ وهل اللّغة العربيّة متحيّزة للمذكّر أو أنّ توظيفها هو سبب هذا التّحيّز؟
2-هناك من يعتقد أنّ اللّغة العربيّة أهانت المرأة عندما ساوت بين المرأة العاقلة والحيوان غير العاقل في جمع المؤنّث السّالم كما ورد على لسان الدّكتورة زليخة أبو ريشة في كتابها “اللّغة العربيّة – نحو لغة غير جنوسيّة”؟
في الواقع، إنّ الإجابة عن هذا السّؤال تتطلّب العودة إلى جمع المذكّر السّالم، وجمع المؤنّث السّالم، قبل ربطها بما جاء في كتاب “زليخة”. فلئن منّت اللّغة على الأنثى، ووهبتها ضمير الذّكورة، وسمحت لها باستعماله متى شاءت، فإنّ ذلك لا يعني استباحة الذّكورة واستسلامها للأنثى. فهناك منطقة محرّمة، تحرّم على المرأة وعلى غير العاقل والحيوان. وهي خاصّة بالمذكّر العاقل فحسب، وتلك هي صيغة جمع المذكّر السّالم، التي يشترط فيها أن تكون من علم مذكّر عاقل خال من تاء التّأنيث الزّائدة.
هذه الشّروط تحصّن الذّكورة من شوائب التّأنيث والحيوانيّة. وحينما يشترط أن يكون “عاقلًا” فهو إحالة إلى معنى حسّاس يشرحه عبّاس حسن قائلًا: “ليس المراد بالعاقل أن يكون عاقلًا بالفعل، وإنّما المراد أنّه من جنس عاقل كالآدميّين والملائكة، فيشمل المجنون الذي فقد عقله والطّفل الصّغير الذي لم يظهر أثر عقله بعد. وقد يجمع غير العاقل تنزيلًا له منزلة العاقل إذا صدر منه أمر لا يكون إلّا من العقلاء فيكون جمع مذكّر”.
في هذه الحالة، يحقّ للمجنون والطّفل، وكذلك للحيوان الذّكيّ، الدّخول من باب “المذكّر السّالم”، أمّا الأنثى فلا يجوز لها الاقتراب من هذا الحقّ الذّكوريّ الخالص (السّالم).
وعلامة التّأنيث لا تناقض الفصاحة كما في كلمة زوج وزوجة فحسب، “ولكنّها أيضًا رديف للحيوانيّة ويتقدّم عليها الجنون والصّغر، مثلما أنّها نقيض للبلاغة”، وقمّة الإبداع تجعل صاحبها فحلاً حسب مصطلحات بعض العلماء كالأصمعيّ وابن سلام وغيرهما.
وتجيء علامة التّأنيث وكأنّها شارة حمراء تَسِم المؤنّث بشروط الإقصاء والنّفي، كما في التّقاليد الأوروبيّة حيث يضعون على المرأة الحائض علامة حمراء لكي يتجنّبها الرّجال ويبتعدون عن دنسها، فيحفظون للذّكورة سلامته لأنّها جمع سالم.
كما تحضر المرأة عند الجاحظ في كتاب الفحولة والفحول، البيان والتّبيين، لتجاور الحيوان وتماثله في العيّ والحمق. إنّها تجيء لتسمع ما يرويه أبو الحسن من أنّ امرأة سألت زوجها: ما لك إذا خرجت لأصحابك تطلّقت وتحدّثت، وإذا كنت عندي تعقّدت وأطرقت؟ فيجيبها قائلًا: لأنّي أجلّ عن دقيقك وتدقّين عن جليلي.
والواقع أنّ الدّكتورة زليخة أبو ريشة في كتابها “اللّغة الغائبة- نحو لغة غير جنوسيّة” تعتبر أنّ اللّغة العربيّة متحيّزة ضدّ المرأة عندما ساوت بين المرأة العاقلة والحيوان غير العاقل في جمع المؤنّث السّالم، واعتبرت أنّ المهمّ لا الجرأة بل المنهج. فآثار “اللّغة الجنوسيّة” التي تمعن في الحطّ من قيمة الأنثى لم تعد ضمن سياقها اللّغويّ وحسب، بل هي دخلت كفكرة في العقل، وتملّكت الأرواح والأجساد. ودعت الكاتبة إلى التّفكير في جانب آخر يعيش في اللّغة، ذلك الجانب الذي تمثّله الأنثى، وهذا يحتاج إلى أكثر من التّعاطف بل الانسجام مع الفكرة نحو “اللّغة العادلة” حيث لا انتقاص من كرامة، ولا تقليل من حضور الجنس الآخر.
لذلك طرح الكثيرون فكرة تجديد الخطاب العربيّ النّسويّ حيث تعامل اللّغة مع المرأة معاملتها مع الأجنبيّ في عدم التّصرّف.
ضمن هذا الإطار، نطرح السّؤال الآتي:
هل نستسلم لهذه الآراء المتوارثة والمتواجدة في ذهنيّة الشّعوب؟ ألا يمكننا أن نجعل من لغتنا العربيّة أداة في دعم المساواة، في تبنّي خيارات لغويّة غير جنوسيّة، تخدم التّنوّع والتّعدّديّة؟
بالعودة إلى الزّمن الجاهليّ حيث كانت آلهة العرب أنثويّة من مثل اللّات والعزى ومناة، كانوا يطلقون على أبنائهم أسماء من مثل: عبد اللّات أو عبد مناة… وهنا نتساءل: لماذا لغة هذا الشّعب ذكوريّة وتحكمه آلهة أنثويّة؟
لو عدنا إلى التّوراة، لوجدنا أنّها تبتدئ بالقول: “في البدء كان الكلمة”، ومع ذلك نقول: “في البدء كانت الكلمة!”؛ فهل مردّ هذا الأمر إلى لاشعورنا اللّغويّ الذي يُعيدنا إلى الأصول الفطريّة للّغة بعيدًا عن سلطة الذّكر؟
في الحقيقة، إنّ فكرة اعتباطيّة العلاقة بين الدّالّ والمدلول، أخذت حيّزًا واسعًا في البحوث اللّغويّة، أمّا الآن، فبدأت تلك الحتميّة تهتزّ، وبدأت تنكشف تأثيرات النّسق الثّقافيّ الذّكوريّ على اللّغة. ولقد بيّنت الدّراسات أنّ اللّغة بنية اجتماعيّة تتغيّر بتغيّر الأزمان استنادًا إلى باختين.
وعليه، يمكننا الانطلاق من النّقطة صفر (point zéro) حيث لا تكون اللّغة ذكوريّة أو أنثويّة، يعمل الجميع على تغيير واقعها محاولين تخليصها من صفتها الذّكوريّة الطّاغية.
3-من منظورك الشّخصيّ ما هي أوجه التّحيّز اللّغويّ الجنسيّ ضدّ المرأة؟
ترتبط اللّغة ارتباطًا وثيقًا بأنشطة التّفكير، بحيث يولّد نظام اللّغة المختلف أساليب التّفكير المختلفة، لذلك فإنّ تأثير اللّغة العربيّة على لغات مختلفة في المجتمع غير العربيّ يعني أيضًا تأثير طرق التّفكير وكيفيّة التّصرّف في المجتمعات العربيّة في مختلف أنحاء العالم.
والواقع أنّ الاهتمام بتأثير اللّغات المتحيّزة جنسيًّا يتجذّر فعليًّا في فرضيّة Sapir-whorf، وهي النّسبيّة اللّغويّة التي تنصّ على وجود علاقة وثيقة بين اللّغة والثّقافة من قبل متحدّثي تلك اللّغة.
وتنصّ الفرضيّة على أنّ اللّغة تؤثّر بشكل مباشر على سلوك المجتمع الثّقافيّ، وتترابط اللّغة والثّقافة بحيث تؤثّر المعاني التي تعبّر عنها اللّغة على الواقع والمفاهيم ووجهات النّظر. ويتمّ في نهاية المطاف استخدام حجّة فرضيّة Sapir-whorf للحملة ضدّ اللّغات التي تمارس التّمييز الجنسيّ ولإيجاد لغات بديلة أكثر حياديّة.
وتسعى بعض الدّراسات العربيّة إلى التّحقّق من كون مسألة التّمايز بين الجنسين، وتأكيد سلطة الرّجل، ناشئة في النّصوص، بل في اللّغة أساسًا في بناها التّجريديّة كما في استعمالاتها وصيغها. هذا ما قاله بعض النّقّاد العرب في كتابات متأخّرة، مثل القول إنّ “بنية اللّغة بنية مذكّرة”.
وعندما نناقش حالة “المذكّر” و”المؤنّث” بشكل واضح، يذكر ابن عقيل ومصطفى الغلايينيّ أنّ كلمة “الإنسان” هي كرجل/ مذكّر، كما تعادله كلمة “الإنسانة” كنساء/ مؤنّث.
في اللّغة الإنكليزيّة، أصل الكلمة، كانت كلمة “man” تستخدم كلمة عامّة أو محايدة تعني “الإنسان”. الكلمة هي نفس كلمة “homo” اللّاتينيّة التي تعني “الإنسانيّة”. إذا أخذنا مصطلح “Camera man”، ندرك أنّه محصور بالرّجل، إذ لا يوجد “Camera woman”، كما لو أنّ هذه المهارة للرّجال فقط. كذلك “delivery man”، على الرّغم من أنّ هذا العمل تقوم به الآن النّساء، ويمكننا أن نضيف “space man, draft man” وغيرها.
لذلك تفضّل النّساء مصطلحات مثل “person, people”، أو “human, human being” لتحلّ محلّ مصطلح “man” لأنّها تعتبر أكثر حياديّة.
كذلك في اللّغة الإنكليزيّة، غالبًا ما يتمّ إعطاء علامة ess في نهاية الكلام مثل:hoste hostess ، waiter waitress. ومع ذلك، هناك مصطلحات لا تميّز بين الرّجال والنّساء مثل Surgeon (الجرّاح)، professor (الأستاذ)، إلّا أنّه في بعض الأحيان، لا نزال نضيف علامة على المصطلح مثل woman professor (أستاذة)، woman surgeon (جرّاح أنثى). فاستخدام هذه المصطلحات يشير إلى أنّ وضع الرّجال في المهنة طبيعيّ أكثر ممّا لو كانت المرأة تعمل في هذه المهنة.
كما يظهر التّحيّز في العربيّة من خلال استخدام الضّمير لجمع المذكّر بسبب وجود رجل واحد ضمن مجموعة نساء بغضّ النّظر عن العدد.
وتجدر الإشارة إلى أنّ اللّغة العربيّة ليست في الواقع اللّغة الوحيدة التي تعترف بالاختلافات بين الجنسين. لقد حلّت الإنجليزيّة محلّ كلمة “she” للنّساء و”he” للرّجال. كما تنعكس هيمنة الرّجل على المرأة باستخدام كلمة الذّكور، على سبيل المثال “chair man”. لكن تمّ استخدام هذه الكلمة لاحقًا بحياديّة إذ نقول “chair person”. هذا الأمر لا نجده في الخطاب العربيّ.
ولو حاولنا أن نحلّل نقديًّا من خلال البلاغة، نتبيّن استنادًا إلى الكتب الآتية: “أساس البلاغة” للزّمخشريّ، و”المنار في علوم البلاغة” لعبد الحكيم النّعنعيّ، ما يلي:
-كلّ الكائنات الموجودة في المجرّة هي مؤنّث مجازيّ، على الرّغم من أنّ شكله مفرد لفظيًّا، مثل جملة: الشّمس مشرقة، السّماء ذات البروج…
-إنّ كلّ جمع باللّغة العربيّة هو مؤنّث: الأصل في الجمع مؤنّث، كما قال الكوفيّون (إنّ كلّ جمع مؤنّث) مثل جملة: المساجد نظيفة.
-الصّيغة المبالغة هي بوزن المؤنّث (أنثى) كما قيل: “الفكارة من كلمة المفكّر، والعلّامة من كلمة العالم”.
-كلّ كلمة متزاوجة هي مؤنّث (أنثى).
-القرآن الكريم ككتاب مقدّس تمّ نشره باللّغة العربيّة، يعطي اسم سورة خاصّة بـ “النّساء” و”مريم”.
من الواضح من خلال التّحليل النّقديّ لعلم البلاغة أنّ اللّغة العربيّة تدعم النّساء، وهي ليست مجرّد لغة لها جذر للتّحيّز الجنسيّ.
خلاصة القول، إنّ اللّغة والتّحيّز الجنسيّ هما خطابان لا يزالان يتطوّران إلى جانب ظهور الحركة النّسائيّة في جميع المجالات بما في ذلك اللّغويّات التي تؤدّي إلى حركة تطلق على نفسها “لغة مناهضة للتّحيّز الجنسيّ”. إنّ هذه الحركة هي في الواقع استمرار للدّعوة إلى المساواة في الحقوق والواجبات للرّجال والنّساء في مختلف المجالات التي اعتبرت غير متوازنة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ كلّ لغة لديها لغة تحيّز جنسيّ، ولا يمكننا أن نفصل هذا عن مشكلة النّظام الاجتماعيّ والثّقافيّ الذي ينطبق على المجتمع. كثيرًا ما نجد أنّه عندما يكون المجتمع نظامًا أبويًّا مثقّفًا، فإنّ اللّغة التي تظهر وتطبّق في المجتمع ستصبح أيضًا متحيّزة جنسيًّا. نحن ملزمون إذًا ببذل جهود من أجل تحييد اللّغات وجعلها تضمن المساواة بين المرأة والرّجل، فكيف السّبيل إلى ذلك؟
4-هناك من خبراء اللّغة من توصّل إلى استنتاج إلى أنّ تاء التّأنيث والتّركيب وعدم وجود مفرد لجمع ما أقوى من شروط جمع المذكّر السّالم، ما صحّة ذلك لغويًّا وهل تؤيّدين هذا الرّأي؟
يذكر د. عبد الله الغذاميّ في كتابه “المرأة واللّغة” أنّ شروط جمع المذكّر السّالم في مقابل شروط جمع المؤنّث السّالم متحيّزة ضدّ المرأة.
فمن أهمّ شروط جمع المذكّر السّالم أن يكون عاقلًا، بينما لا فرق بين المرأة والشّيء غير العاقل في جمع المؤنّث السّالم، فنقول: تلميذة/ تلميذات. طاولة/ طاولات.
ضمن هذا الإطار، نتساءل: ماذا عن كلمة “رجل” وقد أخرجت هي الأخرى من جمع المذكّر السّالم مع أنّها مخصّصة للمذكّر؟ والسّبب في منعها من اللّحاق بجمع المذكّر السّالم لأنّه اسم جنس للذّكور، مع أنّ كلمة “رجل” تشير إلى ذكر عاقل خالٍ من تاء التّأنيث.
ونضيف إلى تساؤلنا، شرط التّفكير بالملحقات بجمع المذكّر السّالم كألفاظ العقود من عشرين إلى تسعين وكلمتي “أولو- أهلون” تخرجان عن شروط المذكّر السّالم ومع ذلك تجمعان جمعًا مذكّرًا سالمًا، والسّبب في إلحاقها بجمع المذكّر السّالم أن لا مفرد لها من جنسها.
بالتّالي، لماذا لم تجمع ألفاظ العقود والكلمات الملحقة الأخرى جمعًا مؤنّثًا سالمًا؟
كذلك من شروط جمع المذكّر السّالم أن يكون علمًا لمذكّر عاقل، خاليًا من التّأنيث والتّركيب، من مثل: طلحة، عبد الله؛ فهما لا يُجمعان جمعًا مذكّرًا سالمًا على الرّغم من أنّ طلحة عاقل، كذلك عبد الله، بالتّالي فإنّ التّاء في طلحة والتّركيب في عبد الله أقوى من الذّكورة العاقلة.
بالتّالي، فإنّ تاء التّأنيث والتّركيب وعدم وجود مفرد لجمع ما أقوى من شروط جمع المذكّر السّالم.
ألا نكون بذلك قد ظلمنا اللّغة وسمحنا للاعتبارات الاجتماعيّة أن تفرض صيغة تهمّش المؤنّث؟
ألا يَجدر بنا أن نفكّر باللّغة العربيّة بعيدًا عن الطّريقة النّمطيّة المتوارثة عبر الشّعوب؟
5-يعتقد البعض بأنّ الذّكور هي المجموعة المهيمنة التي أنتجت اللّغة والفكر وكيفيّة النّظر للواقع بطريقة ساعدتهم في تعزيز ادّعاء التّفوّق والتّميّز، ما رأيك؟
إنّ هذا السّؤال يصلح أن يكون رسالة ماجستير بحدّ ذاتها. فلو عدنا إلى مقولة ابن جنّي عن “كون التّذكير هو الأصل”، ندرك أنّ الكتاب الذي وضعته نوال السّعداويّ “الأنثى هي الأصل”، جاء كردّ على مقولة ابن جنّي. فما نتبيّنه أنّ الضّمير اللّغويّ عندها دائمًا ضمير مذكّر، ممّا يجعلها تحيل إلى ذكوريّة الأصل اللّغويّ. فقد ورد في كتابها ما يلي: “إنّ القلق لا يحدث للإنسان إلّا إذا أصبح واعيًا بوجوده وأنّ هذا الوجود يمكن أن يتحطّم، وأنّه قد يفقد نفسه ويصبح لا شيء، وكلّما كان الإنسان واعيًا بوجوده زاد قلقه على هذا الوجود وزادت مقاومته للقوى التي تحاول تحطيمه”.
وردت هذه الفقرة، أثناء حديثها عن القلق الذي تعاني منه المرأة المثقّفة، وتركّز حديثها على المرأة ومشكلة الأنوثة، كما تستبعد الرّجل. وعلى الرّغم من ذلك، فإنّ الباحثة تحيل إلى غائب مذكّر في وسط الحضور المؤنّث.
وهذا ما لاحظناه عند مي زيادة التي كانت تتحدّث بوصفها امرأة، تخاطب مستمعات من النّساء قائلة:
“أيّتها السّيّدات…
أنا المتكلّمة، ولكنكنّ تعلمن أنّ ما يفوه به الفرد فنحسبه نتاج قريحته وابن سوانحه، وإنّما هو في الحقيقة خلاصة شعور الجماعة تتجمهر في نفسه ويرغم على الإفصاح عنها”.
وقد حذت حذوها غادة السّمّان إذ تقول:
“وما أروع وما أسوأ أن تكون امرأة”، وكان سياق الجملة يقتضي الإحالة إلى التّأنيث، فتقول: أن تكوني.
كيف يمكننا بالتّالي أن نتبنّى مقولة “الأنثى هي الأصل” وهي ترضى أن تكون فرعًا. كما تعلن نازك الملائكة اعتراضها على الشّاعر علي محمود طه لأنّه وضع عنوانًا لقصيدة من قصائده كالتّالي: “هي هو: صفحات من حب”، وتعلّق قائلة: التّرتيب العربيّ أن يقول “هو هي” لأنّ التّقديم عندنا لضمير المذكّر على ضمير المؤنّث وما من ضرورة لتغيير هذا الأسلوب.
بالتّالي، حتّى المرأة في كتابتها تعتبر أنّ التّذكير هو الأصل. وإذا ما دخلت المرأة مجال العمل الوظيفيّ، فإنّها تدخل في سياق التّذكير. فهي “عضو” وهي “مدير” وهي “أستاذ مساعد” و”محاضر”، والأمثلة كثيرة…
من هنا، فإنّ الفصاحة ترتبط بالتّذكير، فنقول عن المرأة إنّها زوج فلان وليس زوجة فلان إن كنّا نتحرّى الفصاحة.
بالتّالي، فإنّ هذه المسألة صارت في الممارسة اللّغويّة، تعبّر عن حقيقة اللّغة، وصارت جزءًا من نسيجها وخلاياها…
ولو أخذنا بعض الأمثلة في اللّغة الإنجليزيّة، لتبيّنّا أنّه ليس للمرأة من وجود إلّا داخل مصطلح الرّجولة:
Man wo-man
Hu-man
Man-kind
هكذا، تكون المرأة مجرّد إضافة لفظيّة إلى الرّجل، ولو حَذفنا كلمة رجل (man) لضاعت وسائل المرأة من الوجود في اللّغة، كذلك مصطلح hu-man.
وكأنّ الرّجل هو مركز اللّغة، وتدور حوله سائر المصطلحات. ولكن هل هذه الأمثلة كافية، لنقرّ بأنّ الذّكور هي المجموعة المهيمنة التي أنتجت اللّغة؟ وهل من المعقول أن نتصوّر أنّ الأصل في اللّغة هو التّذكير، والرّجل وحده هو صانع اللّغة وسيّدها منذ البدء؟ أليس الطّبيعيّ أن يكون الجنس البشريّ بشكليه المؤنّث والمذكّر قد أسهما في إنتاج اللّغة وتوظيفها؟
لو عدنا إلى تاريخ الفلسفة لأدركنا أنّها ولدت في مجتمع ذكوريّ متشدّد. فأفلاطون كان يرى أنّ الحبّ الحقيقيّ هو ما كان بين الرّجل والرّجل، ويرى الجمال المبهج في الشّبّان، وللمجتمع أن يكافئ الرّجال المحاربين بأن يمنحهم نساء جائزة لهم على شجاعتهم. بالتّالي غابت المرأة عن محاورات أفلاطون واختفت من الخطاب اللّغويّ المكتوب.
ويتمّ تتويج الذّكورة والتّعالي على الأنوثة في المجتمع اليونانيّ بما تمليه مسرحيّة “أنطيغون” (Antigone) لسوفوكليس، حيث يوصي كريون ابنه قائلًا: “يجدر بالمرء أن لا تلين له قناة أمام امرأة في أيّ شأن من الشّؤون، بل من الأفضل له أن يطاح به من الحكم على يد رجل”…
ويأمر كريون أخيرًا بدفن أنطيغون حيّة لأنّها المرأة التي خرجت على نظام الرّجال. والأمثلة عبر التّاريخ كثيرة، لا يتّسع المجال في هذا الحوار لذكرها.
واقع الأمر، إنّ خروج المرأة من اللّغة ليس مجرّد حادثة منسيّة، بل إنّه تحوّل حضاريّ في الفكر اللّغويّ وفي الثّقافة الإنسانيّة.
وقد جادل العديد من علماء اللّغة والاجتماع منذ سنين طويلة بأنّ اللّغات قد تكون بالفعل صنيعة الرّجال الذين أرادوا في حقبة ما من الزّمن تمثيل وجهات نظرهم، وتمكين أنفسهم وذواتهم وإثبات سيطرتهم على غيرهم من فئات المجتمع. بالتّالي، فإنّ الطّريقة التي نرى بها العالم من خلال اللّغة هي بالنّهاية نتاج للتّقاليد الأبويّة التي صنعت اللّغة وطوّرتها لتخدم مصالحها.
وتجادل الكاتبة الأستراليّة “دايل سبندر” في كتابها “Man Made Language” بأنّ اللّغة بالأساس هي وسيلة لتصنيف ترتيب العالم. فقبل اختراع اللّغة، لم يكن للإنسان أيّ إطار مرجعيّ أو ترتيب معيّن يلجأ إليه لفهم العالم من حوله. وتعتبر الكاتبة بأنّ تصنيف اللّغة وفقًا للأعضاء الجنسيّة، أي لذكرٍ وأنثى أو لفئات ذكوريّة وأخرى أنثويّة، جاء بناءً على رغبة الذّكر بتصنيف السّلوكيّات المحدّدة بين الجنسين. ومن خلال ترتيب الأشياء والأحداث في العالم وفقًا لهذه القاعدة، فقد سعى الذّكور إلى تسويق تفوّقهم في أغلب المجالات، إن لم يكن جميعها على حساب الأنثى. كلّ هذه الأمور دفعت بالرّجال إلى الأخذ بواجب الوصاية على النّساء، وظلّ الرّجل يعتقد أنّ المرأة تعيش آسفة لأنّها ليست ذكرًا، حسب زعم فرويد أيضًا.
تجدر الإشارة في النّهاية إلى أنّ النّقاش في هذه المسألة، لا يُفضي إلى نتائج حاسمة، ولو كان الرّجل هو حقًّا واضع اللّغة الوحيد، لم ينشئ اللّغة ضدّ المرأة، وإن استعملها في أمور مخصوصة أفادته ليؤكّد خطابه، لا صوره وحده، له ولغيره وللعالم. ولقد صاغها، إن صاغها وحده، لحاجات تصدر عنه وتتعدّاه في آن، بدليل أنّها بتصرّف غيره، وجعلها تخضع لمشيئته، إلّا أنّها قابلة لغير مشيئة.
ونضيف إلى ذلك أنّ المرأة اليوم تغيّر وضعها، وباتت تشارك الرّجل في كلّ ميادين الحياة، وأثبتت تفوّقها في كافّة المجالات، بالتّالي فهي كائن جسديّ وعقلانيّ في الوقت عينه. ويبقى السّؤال: كيف تستطيع المرأة بذكائها الفطريّ أن تضع حدًّا للرّجل الذي يدّعي التّفوّق والتّميّز، ويقلّل من شأنها، مع أنّه لا يستطيع الاستغناء عن وجودها؟
6-هناك من ذهب بعيدًا ووصف اللّغة العربيّة أنّها تمارس الطّائفيّة ضدّ الأنثى، حيث تعامل كأقلّيّة من خلال إقحامها تحت عباءة الرّجل ومعاملتها معاملة المذكّر في الكثير من السّياقات. هل ذلك مجافٍ للحقيقة أم أنّها الحقيقة بعينها؟
اقتضت الأسئلة السّابقة التّطرّق إلى هذا الموضوع إذ اعتبر البعض أنّ اللّغة العربيّة، تمارس انحيازًا إعلانيًّا ومباشرًا للرّجل على المرأة، حين ساوت صرفيًّا بين الاسم العربيّ المؤنّث والاسم الأعجميّ. ويمكن لرجل واحد أن يلغي مجتمعًا من النّساء في تذكير الأفعال حيث يشار إلى هذا الجمع بصيغة المذكّر. لذلك، فإنّ الحديث عن “جنسيّة” اللّغة أمر ضروريّ، ذلك أنّ بعض النّقد النّسويّ، ومنه آراء وكتاب للكاتبة زليخة أبو ريشة، أو لنقّاد عرب ذكور (جورج طرابيشي، عبد الله الغذاميّ…) يتحقّق من أنّ التّمييز واقع في اللّغة، من دون أن يميّز بينها في نظامها العامّ وبناها التّكوينيّة، وبينها في استعمالاتها.
ويعتبر الباحث الدّكتور شربل داغر أنّه لا يمكننا القول في صورة جازمة إنّ بنية اللّغة “مذكّرة”، وفي صورة متّسقة: فهناك في البنى التّكوينيّة للّغة العربيّة (مذكّر/ مؤنّث، جمع مذكّر سالم/ جمع مؤنّث سالم…) ما يضمن حضورًا للمرأة، مساويًا للرّجل. إلّا أنّ الأمر لا يبدو على هذه الحال في مجمل البنى التّكوينيّة، “المولّدة” للّغة في استعمالاتها كلّها. فالفعل الماضي المذكّر في العربيّة قائم في تكوينه، فيما يحتاج الفعل الماضي المؤنّث إلى أداة، إلى حرف مزيد، هو تاء التّأنيث، لكي يقوى على الفعل، لكي يتاح له أن يقوم بما يقوم به المذكّر في صورة طبيعيّة وسويّة، إذا جاز القول. غير أنّ هذا الأمر لا يختلف عن “تدبيرات” أخرى لجأ إليها الواضع اللّغويّ، مثل اعتماد أدوات مزيدة، مثل “سوف” و”السّين”، لتحقيق الفعل المستقبل. هذا ما نتحقّق منه في تأنيث الأسماء كذلك، إذ يحتاج اسم الفاعل إلى تاء كذلك لكي يصبح ممكن الوجود وقابلًا للتّحقّق.
وعليه، العربيّة ليست مذكّرة، وإن كان بعض تكويناتها يحتاج إلى تبيّن ومساءلة، بدليل أنّها ميّزت بالأدوات للتّفريق بين الاثنين مثل الياء للمضارع والمذكّر والتّاء للمضارع المؤنّث، وهو ما لا يتحقّق على هذه الصّورة “العادلة”، لو شئنا المقارنة، في الفرنسيّة والإنكليزيّة: فالفعل لا صيغة المتكلّم والمخاطب هو عينه للذّكر كما للأنثى، إلّا أنّ الأمر يختلف في استخدامات العربيّة، لأنّ الكتب لا تنقل إلّا صورة نمطيّة عن المرأة وهي تطبخ في البيت، ما يحتاج إلى تغيير في الذّهنيّة المتوارثة أوّلًا قبل أن يبدأ التّغيير على الورق.
7- حسب وجهة نظرك هل اللّغة العربيّة تعزّز القوالب النّمطيّة والاجتماعيّة وتحدّ من حصولها على حقوقها وتعرقل المساواة بين الجنسين؟
نظر العديد من الباحثين إلى مسألة المرأة على أنّها مسألة تاريخيّة أساسًا، ولا تقع في جنس المرأة أو في نوعها. هذا ما قاله مارلو-بونتي حين نظر إلى الإنسان على أنّه “فكرة تاريخيّة”، صنعتها أعمال البشر قبل التّدبيرات البيولوجيّة. وهو سبيل في النّظر ينسب مشاكل المرأة إلى حسابات واقعة في تبادلات التّاريخ المتراكمة وفي الوعي كذلك، ونقصد بذلك وعي الإنسان لذاته ولغيره.
وبينما يسعى العالم حاليًّا إلى تحقيق المساواة بين الرّجل والمرأة في كلّ المجالات، قد تغيب المساواة في تواصلنا مع الآخرين يوميًّا في العالم الغربيّ من دون أن نشعر، ربّما بسبب طبيعة اللّغة.
وفي حين أنّ معظم لغات العالم تحاول المساواة بين المذكّر والمؤنّث في قواعدها، فإنّ اللّغة العربيّة، اعتمدت قاعدة تغليب المذكّر على المؤنّث، إذ رأى النّحاة أنّ التّذكير هو الأصل وأنّ التأنيث اختصاص. ونذكر على سبيل المثال أنّ اللّغة الإنكليزيّة لا تفرّق في صيغة الجمع بين الجنسين مثلما نقول: “Journalists, Engineers, Players”، أمّا اللّغة العربيّة فتميل لتذكير الجمع مثلما نقول في “صحافيّين، مهندسين، لاعبين”.
وقد وضعت الأمم المتّحدة دليلها الخاصّ لصياغة لغويّة شاملة، لا تنطوي على تمييز ضدّ جنس أو نوع اجتماعيّ معيّن، ولا تكرّس القوالب النّمطيّة الجنسانيّة. ومن الممكن أن تطبّق هذه المبادئ على أيّ نوع من أنواع التّواصل سواء أكان شفهيًّا أم كتابيًّا. وتقوم استراتيجيّة الأمم المتّحدة في تحقيق المساواة بين الجنسين في اللّغة العربيّة على ثلاث طرق:
1-استخدام عبارات غير تمييزيّة، مثلًا:
“حضر الدّكتور نبيل سعد وبهيّة الاجتماع”.
لا نقول:
“حضر كلّ من الدّكتورة بهيّة محسن والدّكتور نبيل سعد الاجتماع”.
2-الإفصاح عن نوع الجنس إذا كان ذلك ضروريًّا.
وتقوم هذه الاستراتيجيّة على أساليب مثل الجمع بين المؤنّث والمذكّر، فعلى سبيل المثال، نقول:
“لدى الموظّفات والموظّفين فرص متساوية”.
ولا نقول:
“لدى الموظّفين فرص متساوية”.
3-عدم الإفصاح عن نوع الجنس إذا لم يكن ذلك ضروريًّا. ويعتمد هذا الأمر على استخدام أسماء محايدة جنسانيًّا، مثلًا:
قادة/ قيادات.
نائب عامّ/ نيابة عامّة.
عمّال مهاجرون وافدون/ عمالة مهاجرة وافدة.
دار المسنّين/ دار رعاية الشّيخوخة.
بالتّالي، يمكن أن نجعل لغتنا العربيّة أداة في دعم المساواة، في تبنّي خيارات لغويّة تخدم التّنوّع والتّعدّديّة، وقد سبق وتطرّقنا إلى هذا الموضوع في سؤال سابق.
ونورد في هذا السّياق المفاضلة بين الذّكر والأنثى، إذ يذكر لنا التّوحيدي جدالًا دالًّا على طبيعة منظومة التّفكير اللّغويّة العربيّة، فينتصر للذّكر على حساب الأنثى: “جرى حديث الذّكور والإناث، فقال الوزير: قد شرّف الله الإناث بتقديم ذكرهنّ في قوله تعالى: “يهبُ لمن يشاءً إناثًا ويهبُ لمن يشاءُ الذّكور”. قلت في هذا نظر، فقال الوزير: ما هو؟ قلت: قدّم الإناث ولكنّه أخّر الذّكور، ولكن عرّف والتّعريف أشرف من النّكرة بالتّقديم. ثمّ قال الوزير: هذا حسن. قلت: ولم يترك هذا أيضًا حين قال: أو يزوّجهم ذكرانًا وإناثًا، فجمع الجنسين بالتّنكير مع تقديم الذّكور.
لكن إن استندنا إلى رأي النّحاة: “النّكرة أصل والمعرفة فرع” والأصل أقوى من الفرع، فهل يبقى لتعليله من جدوى. إنّ ذكر الآيتين لدى التّوحيديّ دليل على أنّه لا فضل في التّقديم والتّأخير، والشّيء الآخر أنّ وجود هذا الجدل في التّراث العربيّ دليل على أنّ في الأمر التباس، فهل كما قرّر النّحاة بأنّ هذه طبيعة اللّغة بل هي رغباتهم؟
خلاصة القول، تلتقي أغلب اللّغات عند نقطة أنّ تغليب المذكّر على المؤنّث مصدره الرّئيس أنّ واضعي اللّغة وقواعدها على مرّ التّاريخ هم الذّكور. واليوم، ومع التّحرّر من قيد سيطرة جنس على آخر، وإن بصورة نسبيّة، تعالت الأصوات المطالبة بالمساواة في اللّغة. ويرى دعاة المساواة أنّ تغليب المذكّر على المؤنّث في قواعد اللّغة تحيّز ضدّ النّساء، وأنّه حان الوقت لتغيير هذا الإجحاف. وقد بدأنا نشهد بعض المبادرات من قبل كتّاب يحاولون الخروج عن هذه القواعد في كتاباتهم. ولو عدنا إلى نظريّة جرجي زيدان بأنّ اللّغة كائن حيّ، نجد أنّه من العبث والعشوائيّة التّمسّك بصيغ معيّنة فيها بحجّة أنّها القاعدة. في حين أنّه من المعقول جدًّا الدّعوة إلى إحياء المجمّعات اللّغويّة لطرح هذه القضيّة وإيجاد مخرج مشرّف لها يراعي فيها الحضور المؤنّث الذي فرض نفسه وخرج من ظلال علماء اللّغة القدامى ليعلن استقلاله التّامّ. وتبقى الإشكاليّة في الذّهنيّة العربيّة المتوارثة، فهل يمكن للغة تعكس ذهنيّة مجتمعها أن تتخطّاه؟
8-نجد هيمنة ذكوريّة في فضاء الأدب العربيّ، هل هو امتداد لكلّ ما ذكر أم تراجع في مستوى الأدب النّسويّ؟
قالت سيمون دي بوفوار إنّ “مشكلة المرأة كانت، ولا تزال مشكلة الرّجل”. فلو عدنا إلى الصّور المتداولة عن الرّجل لَلاحظنا أنّها تدور في غالبها على أنّه أصل النّوع البشريّ، والمرأة هي الجنس الإنسانيّ النّاقص. وعملًا بكتاب سيمون دي بوفوار، لا تزال المرأة “الجنس الثّاني”، أو العاجزة بفعل تراكمات الهيمنة الذّكوريّة عن أن تكون هي ذاتها، في ذاتها، كما يحلو لها أن تكون. ومع ذلك، لم يتوانَ الرّجل كاتبًا عن الحديث عن المرأة، بل عن تبجيلها، أو رفعها في حساب القيم والرّموز. وبمقدار ما يسعى الرّجل إلى تأكيد ذاته، يرتاب من قوّة المرأة “الخافية”. ومع ذلك لا يتوانى عن “عرض” المرأة، وتقديمها في تمثّلات مختلفة، من دون أن تكون هي، بل صوره هو عنها. فلا تعدو أن تكون مرآة المتكلّم العاكسة لذاته النّرجسيّة، أو انعكاسًا لتحديدات نمطيّة سارية عنها بعكس تمثّلات الوعي الذّكوريّ.
فلا يمكننا الانطلاق سلفًا من أنّ المرأة كذات وكموضوع حاضرة في صنوف الإبداع العربيّة المختلفة، رغم أنّنا نقرأ في الشّعر القديم أسماء أدبيّة كثيرة مثل الخنساء، ورابعة العدويّة، وعريب المأمونيّة، ونائلة بنت الفرافصة اللّواتي كتبنَ الشّعر في مواضيع مختلفة.
وقد بدأت تظهر بوادر التّغيير في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر، حيث دعا بعض المصلحين إلى تعليم المرأة القراءة والكتابة، واحتراف مهن مختلفة خارج البيت انطلقت في أجواء “المثاقفة”، ومنها القبول بـ “التّمدّن” الأوروبيّ وأسبابه. وهو ما قاله المعلّم بطرس البستانيّ: “الوطن بأهله، والنّساء نصفهم، فلا تستقيم أموره، ولا تنتظم أحواله، ولا يبلغ الدّرجة القصوى من المدنيّة، ما لم يحصل هذا النّصف على الكمال المدنيّ”.
غير أنّ مسار التّطوّر تأكّد، وعرفنا مشاركة للمرأة في جميع مجالات الآداب والفنون: فلا يخلو إبداع عربيّ من مشاركة النّساء فيه. فالأديبات بِتْنَ يقبلن هذه الممارسات لا في أوقات الرّاحة وحسب، وخير مثال على ذلك الأديبة غادة السّمّان، كذلك مي زيادة التي وعت الأمر قبل غيرها وتنبّهت إلى الحساسيّة النّسويّة، وجعلت فيها علمًا دالًّا على كتابتها. وقد حملت يوميّاتها شجونها الرّومنسيّة. كما استوقف مي زيادة دور بعض النّساء الرّائدات، فخصّصت لهنّ كتبًا تعرّف بهنّ، مثلما فعلت مع باحثة البادية في العام 1920. وقد جعلت من صوتها صوت المرأة وفق تضمينات تجمع بين النّضال والرّقّة في آن: “أتكلّم الآن بحرقة كأنّي صوت المرأة الصّامت منذ أجيال”. فصوت مي زيادة كان صوتًا شجيًّا فيه خلجات رقيقة وصيحات إنسانيّة.
كذلك الأمر بالنّسبة إلى نازك الملائكة في صراعها الطّويل مع الحزن الذي ينتهي بأن تغنّي له وترحّب به مثلما رحّبت العجوز بضيفها (الموت). ومع بروز المرأة العصريّة الكاتبة برز الحزن رفيقًا لها وعلامة على حياتها. ويقرّر أحد الباحثين قائلًا: “في مراجعة شاملة للأدب النّسويّ المعاصر منذ فجره حتّى أوائل الحرب العالميّة الثّانية يتبدّى طابع حزين منقبض يغمر أدب المرأة ويكاد يصبغه بصورة مظلمة قاتمة”. وهذا الحزن الذي لمسناه عند المرأة ليس مجرّد تاريخ لحوادث الحياة وظروفها، ولكنّه عمق ثقافيّ ونفسيّ، وهو ينسجم مع قول الفرنسيّة لويز ميشال: “ليس من ألم يضاهي ألم المرأة”.
أمّا صوت ليلى بعلبكيّ في “أنا أحيا” فيتأتّى من مجال آخر ذي تضمينات “نسويّة” متجدّدة، ذات مصادر وجوديّة. لقد جعلت من امتناع المرأة عن تأدية أدوارها التّقليديّة، غرضًا لكتابها، الذي لا نعرف أقوى منه، على الرّغم من توافر كتابات نسائيّة عديدة منذ ذلك العهد.
فتوظيف المرأة للكتابة وممارستها للخطاب المكتوب بعد أن كان مقتصرًا على متعة الحكي وحدها، يعني أنّنا أمام نقلة نوعيّة في مسألة الإفصاح عن الأنثى، إذ لم يعد الرّجل هو المتكلّم عنها والمفصح عن حقيقتها، ولكن المرأة صارت تفصح عن رغباتها.
لقد كتبت المرأة ودخلت إلى لغة الآخر واقتحمتها ورأت أسرارها وفكّت شيفراتها، فتكلّمت على مأساتها الحضاريّة، وأعلنت إدانتها للثّقافة والحضارة، وبيّنت أنّ هذه الحضارة المزعومة ليست تحضّرًا أو تطوّرًا فكريًّا، فالحضارة التي تقمع المرأة ليست حضارة كما تقول فرجينيا وولف.
استنادًا إلى ما سبق، يمكنّنا القول إنّ المرأة تحوّلت من “موضوع” لغويّ إلى “ذات” فاعلة، تعرف كيف تفصح عن نفسها، وكيف تدير سياق اللّغة، وتحوّله إلى خطاب بيانيّ يجد فيه الضّمير المؤنّث فضاء للتّحرّك. من هنا، فإنّ الدّعوة الجذريّة هي في إعادة تقسيم العالم، وبإعادة ترتيب جديد له يقضي بأن يكون الحاصل الإبداعيّ متوازنًا، فتناول المرأة المخصوص لذاتها ولغيرها وللعالم، هو تناول يؤدّي إلى طرح مدوّنات وتعبيرات أخرى عمّا نعنيه بالإنسان عمومًا، فلا يقتصر على صيغة الذّكوريّة وحسب.
لعلّ المرأة تصير امرأة أكثر في الكتابة العربيّة، ولها صور لا ظلال. فمتى ستتخلّى عن فكرة أنّها المرأة التي يمسكها الرّجل؟
9-ما عوامل نجاح الإقلاع والانطلاق في فضاء الأدب لخدمة قضايا المرأة؟
إنّ مباشرة المرأة الكتابة، ليست معطاة سلفًا، وإقبال النّساء العربيّات على الكتابة يتزايد، وما كان نادرًا في فترة ما بين الحربين بات اعتياديًّا في النّصف الثّاني من القرن العشرين.
ولو تيسّر للمرأة أن تكتب تاريخ الزّمان والأحداث وتولّت بنفسها صياغة التّاريخ، ولم يكن ذلك حكرًا على الرّجل وحده، لكنّا قرأنا تاريخًا مختلفًا عن فاعلات ومؤثّرات وصانعات للأحداث.
لذلك، الأمر ليس سهلًا، والتّغيير لا يكون بين ليلة وضحاها، ولا يحدث بضربة سحريّة. إنّه يحتاج إلى عمل شاق لا شكّ أنّ المرأة قد خبرته وعانته. فقد حاولت أن تفصح عن نفسها عبر الحكاية وجعلت السّرد نصًّا مؤنّثًا.
وقد دخلت إلى عالم اللّغة بوجهها المكتوب، وحين وجدت الرّجل قد احتلّ الموقع وأحكم سيطرته على المكان، راحت مي زيادة تفتح أبواب المكان بأن أقامت صالونًا كانت سيادته مؤنّثة. وتجدر الإشارة إلى أنّنا بدأنا نشهد بعض التّغيّرات في العصر الأندلسيّ، حيث كان لولّادة بنت المستكفي مجلسًا مشهورًا في قرطبة يؤمّه الأعيان والشّعراء ليتحدّثوا في شؤون الشّعر والأدب بعد زوال الخلافة الأمويّة.
والواقع، وراء ذلك معاناة مع الذّات والآخر، وعلى المرأة أن تؤسّس قيمة إبداعيّة للأنوثة، تكون عبر كتابة تحمل سماتها وتقدّمها في النّصّ اللّغويّ، لا على أنّها تابعة أو خاضعة للرّجل، وإنّما بوصفها قيمة إبداعيّة. ولو أخذنا من التّاريخ صورة شهرزاد، لأدركنا أنّها جاءت في ألف ليلة وليلة على أنّها امرأة تحكي وتقصّ، وهذا يتضمّن صورة التّحدّي والصّراع من أجل بقاء الذّات وبقاء الجنس جسديًّا ومعنويًّا.
ويبقى أن نقول إنّ الانطلاق في فضاء الأدب لخدمة قضايا المرأة يحتاج إلى وعي على الصّعيد الاجتماعيّ. وهذا يقتضي من الكتابة النّسائيّة دورًا مزدوجًا، منه، أوّلًا، تأسيس كخطاب أدبيّ أنثويّ حقيقيّ الأنوثة، حيث تصبح اللّغة أنثى تتكلّم بلسان المرأة وتكتب بقلم المرأة.
من هنا تصبح كتابة المرأة ليست مجرّد عمل فرديّ من حيث التّأليف أو من حيث النّوع، إنّها بالضّرورة صوت جماعيّ. فتكون الكاتبة، وكذلك اللّغة، وجودين ثقافيّين فيهما تظهر المرأة بوصفها جنسًا بشريًّا، ويظهر النّصّ الأدبيّ بوصفه جنسًا لغويًّا، وتكون الأنوثة حينئذ فعلًا من أفعال التّأليف والإنشاء ومن أفعال القراءة والتّلقّي.
كما تحتاج اللّغة إلى امرأة تناضل من أجل أنوثة النّصّ وأنوثة قلم الكاتبة، يحتاج الأدب إلى وعي ثقافيّ جماعيّ يقدّر المرأة ويحترمها. فالكتابة النّسويّة سوف تحقّق حرّيّتها وانطلاقها كلّما تيقّنت المرأة من قوّتها.
10-إلى أيّ حدّ يبدو الأدب والفكر وممارسته القائمة اليوم في العالم لغة عالميّة، وما هي التّخوم التي تفصل بين ما هو عالميّ وما هو عربيّ؟
إنّ علاقة الأدب بالمجتمع علاقة جدليّة تفرضها مقوّمات النّشأة والتّطوّر داخل هذا الوسط، وقد فرضت الظّروف والمتغيّرات والتّحوّلات المجتمعيّة ظهور نوع جديد من الالتزام المحدّد بالأوضاع الاجتماعيّة والسّياسيّة التي تتحوّل وتتغيّر باعتبارها صيرورة وجوديّة إن سلبًا أو إيجابًا، والمقصود هنا بالالتزام انصهار الأديب في مجتمعه وانشغاله بقضاياه التي تُعدّ جزءًا من يوميّاته الطّبيعيّة.
من هذا المنطلق، فإنّ الكاتب مدعوّ إلى متابعة هذه الصّيرورة وإلى معايشتها وتأريخها أدبيًّا وشعريًّا، فلا يمكن أن نصوّر إنتاجًا أدبيًّا ما، من دون أن يكون متّصلًا اتّصالًا وثيقًا بالمسألة الثّقافيّة، ومن دون أن يكون على ارتباط بالمجتمع. وبفعل العولمة، وتحويل العالم إلى قرية كونيّة صغيرة، ما عاد الأدب منعزلًا في بيئة أو مجتمع، بل بات منفتحًا على كلّ الآداب العالميّة. وقد أدّت التّرجمة دورًا بارزًا في عمليّة نقل الآداب.
والأديب في كلّ المجتمعات يعيش وعيًا شقيًّا كما قال سارتر، “لأنّه يكتب في مجتمع تسوده الفوارق من كلّ نوع، وتنتصب داخله العراقيل أمام ممارسة النّاس لتحرّياتهم”. وبالتّالي، يصبح دور العمل الأدبيّ دورًا متميّزًا داخل المجتمع ووعي الأفراد به باعتباره وسيلة من وسائل بثّ الوعي الفكريّ والجماليّ بوظيفته المزدوجة: المتعة والمنفعة.
غير أنّ الأسئلة التي تطرح: ما هي درجة حضور الأدب العربيّ في المشهد الثّقافيّ العالميّ؟ وما نسبة قراءة الكتب العربيّة، وخصوصًا الرّوايات، المترجمة إلى اللّغات العالميّة، وبشكل خاصّ الإنكليزيّة والفرنسيّة؟
يعتبر الأدب العربيّ جزءًا من منظومة الآداب العالميّة، يتأثّر بها ويؤثّر فيها. وطالما هناك تأثّر وتأثير، من الصّعب أن نعزل الأدب العربيّ عالميًّا. ومن المفترض أن يتحقّق ذلك التّواصل المنشود من خلال وسيط أساسيّ وهو “التّرجمة”، ولكن المشكلة تكمن في القيّمين على الأدب واللّغة في كلّ أنحاء الوطن العربيّ.
وكما ذكرت سابقًا، ففي ظلّ العولمة والتّداخل الثّقافيّ بين أنحاء العالم المختلفة، والتّطوّر الهائل في وسائل الاتّصال بين المجتمعات والدّول، إنّنا نشاهد زحفًا حضاريًّا أدّى إلى ترقّي كلّ اللّغات والثّقافات إلى مستوى بالغ الأهمّيّة. فعمليّة المثاقفة لا تعني تبادلًا ثقافيًّا حرًّا، بل هي نتاج عمليّة إخضاع تفرض حوارًا بين الحضارات يعترف بوجود التّفاوت بين الآداب. وهذا يتطلّب خروجها من حدودها القوميّة.
وكما ذكر الدّكتور محمّد غنيمي هلال: إنّ عالميّة الأدب تعني خروجه من نطاق اللّغة التي كُتب بها إلى أدب لغة أو آداب لغة أخرى.
في الواقع، إنّ هذه العالميّة هي ظاهرة عامّة بين الآداب في عصور معيّنة، ويتطلّبها الأدب المتأثّر في بعض العصور بسبب عوامل خاصّة تدفعه إلى الخروج من حدود قوميّته، إمّا للتّأثير في الآداب الأخرى، وإمّا نشدانًا بما به يغني ويساير الرّكب الأدبيّ العالميّ.
ولا ننكر أنّ الأدب المكتوب بالعربيّة في حالة تطوّر وارتقاء، مقارنة بآداب أخرى في لغات أخرى كثيرة، لكن هناك عدم تنسيق بين الجماعات الثّقافيّة، فالنّاشر لا يحرّك ساكنًا، وليس ثمّة سعي وراء النّشر أو المشاركة من فعاليّات عالميّة. وليس ثمّة مبادرات سوى من عدد قليل من المؤسّسات مثل مركز التّرجمة التّابع للجامعة الأميركيّة، وهو يهتمّ بعناوين بعينها.
كلّ هذه العوائق جعلت الأدب العربيّ ينعزل ويبتعد عن السّاحة العالميّة. في المقابل، نحن نتلقّف ما يفيدنا من الغرب ونقبل على ترجمته والأخذ منه من دون تردّد.
وتبقى الأسئلة المطروحة: ما هي الآليّات لكسر هذه العزلة؟ وكيف يمكن أن ننهض بأدبنا العربيّ ونخلق له موقعًا فاعلًا في الآداب العالميّة؟
أعتقد أنّ كلّ أديب، من موقعه، هو صوت فاعلٌ في العالم، هو ناقل للثّقافة والمعرفة، يؤدّي دورًا بارزًا في عمليّة المثاقفة.
وتظلّ العمليّة الإبداعيّة عمليّة تأسيسيّة تنطلق من الواقع، مهما كان نوعه، باعتباره مرجعيّة أساسيّة ومنطلقًا بديهيًّا، كما تستمرّ في نسج شبكاتها في الآفاق التي يستشرفها المبدع باعتباره النّاطق باسم الوعي الجماهيريّ في المجتمع الذي ينتمي إليه، وباعتباره حاملًا لرؤية أو رؤى، ومستندًا إلى مرجعيّة ثقافيّة ومخزون فكريّ. فالأديب، وكلّ آثاره وأعماله، ثمرة قوانين حتميّة عملت من القديم، وتعمل في الحاضر، وتظلّ تعمل في المستقبل. وعلى عاتقه تقع الكثير من المسؤوليّات، لأنّ الأدب انفتاح وليس انغلاقًا.
فإلى أيّ مدى يمكنه التّحليق في أقاصي السّماء؟
11-كثيرًا ما نجد الشّعر العربيّ إمّا شعرًا غنائيًّا أو قصصيًّا قلّما نجد الشّعر المسرحيّ فلماذا؟
الشّعر المسرحيّ هو لون من ألوان الفنون الأدبيّة، ظهر في العصر الحديث، ولم يكن معروفًا في الأدب العربيّ قديمًا. ويطلق عليه في بعض الأحيان المسرح الشّعريّ أو الدّراما الشّعريّة أو المسرحيّة الشّعريّة أو الشّعر الدّراميّ.
ويستطيع الكاتب من خلاله أن يوصل أفكاره ومغزى قصّته للنّاس من خلال أفعال شخصيّات المسرحيّة وتحرّكاتها على مرأى الجمهور.
إنّ الشّعر المسرحيّ يرتبط بالعالم الغربيّ ارتباطًا وثيقًا وقديمًا، على سبيل المثال مسرحيّة “السّيد” لكورناي و”أندروماك” لراسين و”هارناني” لفكتور هوغو. وقد ظهر هذا الشعر في العالم العربيّ عام 1847. ويُعَدّ مارون نقّاش رائد هذا الفنّ في مسرحيّته “البخيل” ثمّ “أبو الحسن المغفّل أو هارون الرّشيد” وآخرها “السّليط الحسود”، وقد غلب الشّعر في هذه المسرحيّات، أو الرّوايات كما كانت تدعى. وبعده ظهرت أسماء عديدة أبرزها أمير الشّعراء أحمد شوقي الذي تأثّر بالأدب الفرنسيّ، ومن أشهر مسرحيّاته “مجنون ليلى، عنترة، مصرع كليوبترا”… كما طال الشّعر الزّجليّ المسرح، على سبيل المثال مسرحيّة “المرأة الهائلة” للشّاعر يوسف كريم غنيمه، و”هند وجميل” للشّاعر خليل روكز، وسواهما.
لكنّ هذا النّوع من الشّعر خفت صوته أوّلًا لصعوبته، حيث يقوم على تعدّد الأصوات، ما يحتاج إلى تقنيّات عالية ومختلفة لم يعهدها الشّاعر العربيّ من قبل، وثانيًا لأنّ الشّعراء باتوا منشغلين بعوالمهم الذّاتيّة، فخفّ في قصائدهم صدى ما يحدث من حولهم.
فنحن لو عدنا إلى تاريخ آداب العالم لعاينّا صحّة فكرة “فاوست”؛ فهوميروس اليونانيّ تخطّى كل العصور، لذا ما تزال العودة إلى “الأوديسة” و”الإلياذة” قائمة حتّى اللّحظة ليكون أبطاله حاضرين في الذّاكرة الإنسانيّة على مرّ العصور.
ونورد في هذا السّياق جيمس جويس الذي جعل من أوليس، بطل “الأوديسة”، رمزًا للإنسان الحديث التّائه في مدنيّة كبيرة تعجّ بالتّناقضات والصّراعات. وقد يكون أوليس مجسّدًا لهجرات زمننا حيث تُرغم المجاعات والحروب والأنظمة الاستبداديّة الفاسدة أعدادًا وفيرة من النّاس على ترك أوطانهم.
لا يمكننا أن نُنكر أنّ الكثير من الشّعراء قد أخذوا على عاتقهم القضايا الوطنيّة والاجتماعيّة، وصارت القصيدة معهم لسان المجتمع، وحاول بعضهم الآخر فتح القصيدة على تقنيّة المسرح، لكنّ هذه اللّفتة ما تزال خجولة.
ومع ظهور قصيدة النّثر، بدأنا نتبيّن قابليّة النّصّ الشّعريّ للانفتاح على أجناس أدبيّة مختلفة. فالشّاعر شربل داغر يكتب مجموعة شعريّة تحمل عنوان ترانزيت، هي أقرب إلى الشّعر المسرحيّ منها إلى الشّعر العاديّ، إذ يضمّنها أصواتًا متعدّدة تؤدّي وظائف مختلفة. وقد سبقه محمّد الماغوط في كتابة نصوصٍ فيها بعض تقنيّات المسرح، لا سيّما أنّه كاتب مسرحيّ من الدّرجة الأولى، والأمثلة كثيرة لا يتّسع السّياق لذكرها.
الواقع أنّ توجّه الشّاعر إلى الغنائيّة أو القصّة في الكتابة، يعود إلى أنّ القصيدة باتت خيارًا في يد الشّاعر، وصار المضمون هو الذي يحتّم اختيار الشّكل. فالشّعر الحديث أنزل القصيدة الحديثة من سماء الحنين الرّومنسيّ إلى أرض الحفاة والعراة والجائعين، من البلاغة إلى الاعتياديّة، من التّركيب المعقّد إلى البساطة، من اللّغة المجرّدة إلى اللّغة اليوميّة. فما عادت المضامين خياليّة أو رومنطيقيّة، وليست روائيّة، بل إنّ النّوع الأدبيّ الذي يحكم القصائد الجديدة بات خليطًا من قصص حُبِكَت بعضها ببعض بشكل سرديّ حكائيّ يوظّف فيه الشّاعر شخصيّاته، وينوّع في قصصه، كما بتنا نلاحظ وجود هويّة مزدوجة للأنا بين الشّاعر والمتكلّم ضمن أطياف تعبر التّلفّظ أو تتملّكه في علاقات شديدة الالتباس، حيث أُنزلت الأنا من مكانة العنجهيّة إلى مستوى الشّوارع والتّسكّع.
كلّ هذه التّغييرات حتّمت انفتاح القصيدة الحديثة على تقنيّات مختلفة، بما فيها الشّعر المسرحيّ، وإن ما زال خجولًا.
12- ما تفسيرك لاختفاء الأديبات والشّاعرات في سنّ متقدّمة من العمر؟
نتحقّق في غير بلد عربيّ من حصول مبادرات، تدعو إلى منتديات تعالج أسباب الخلل، التّاريخيّ والحالي، بين المرأة والرّجل. كما يتمّ التّحقّق من خصوصيّة “الإبداع النّسويّ”، ومن الصّور المتبادلة بين الرّجل والمرأة في عمليّة الإبداع بصورة عامّة.
في الواقع، ما تزال النّظرة إلى المرأة بأنّها تخرج من ضلع الرّجل، من دون أن تكون مشاركة له في صنع الكون والبشر. وما لا يمكننا نكرانه أنّ الرّجال يخافون من ضياع السّلطة من بين أيديهم من خلال النّساء، ويصرّون على التّحكّم في مسار الحياة العامّة. بالتّالي، وإن حصلت المرأة على حقّ التّصويت والانتخاب، فإن المؤسّسات الدّينيّة تعرقل مسيرتها، ما يجعل خروجها عن القيود الاجتماعيّة، وتعبيرها عمّا يجيش في داخلها، مَنوطًا بشعور الخوف الذي يتحكّم بها.
ففي ذهنيّة الشّعوب: المرأة لترتيب المنزل وإعداد الطّعام، وهذا ما زلنا نجده في الكتب المدرسيّة التي تلحق المرأة بأدوار تقليديّة: “أمّي تطبخ، وتُعدّ الحلويات، أبي يعمل في المكتب”.
صحيح أنّ المرأة العصريّة غيّرت هذه الصّورة النّمطيّة التي تتحكّم في المجتمع، إذ تستطيع أن تحدّد حياتها بنفسها من دون أن تفقد أنوثتها، إلّا أنّ هذا الأمر يظهر بنسب متفاوتة حسب المجتمعات. والأديبات والشّاعرات، وإن استمرّت كتاباتهنّ فترة معيّنة من الزّمن، إلّا أنّ هذه الرّغبة سرعان ما تزول وتتلاشى كتلاشي خيوط الشّمس في الأفق لأنّ المجتمع لا يفيها حقّها.
فحتّى القارئ الغربيّ تترسّخ لديه صورة هيمنة الرّجال على المشهد الأدبيّ لأنّه لا يجد سوى أعمالهم مترجمة باللّغات الأوروبيّة الهامّة.
على الرّغم من ذلك، المرأة ابتداء بإنخيدوانا، الشّاعرة السّومريّة، التي سبقت شاعرة الإغريق، وانتهاء بجيل المبدعات المعاصرات في وطننا العربيّ، هي شاعرة مبدعة، وكاتبة متميّزة، ووسائل التّواصل الاجتماعيّ المختلفة سمحت للمرأة الأديبة أن تصل بكتاباتها، وتبقى صوتًا مسموعًا في كلّ أنحاء العالم.
لذلك أدعوها من “وكالة أخبار المرأة” أن تناضل وتجاهد وتكتب، ما دامت نقطة الحبر ما تزال ترشح من القلم.
13-هل حقول الأدب العربيّ عمومًا تدعم حقوق المرأة؟
ترسّخت العلاقة بين اللّغة المكتوبة والرّجل على مرّ الزّمن. وقد جرى تزهيد المرأة بالعلم والكتابة وتخويفها منها. وقد طرح الجاحظ مصطلحين يحملان التّمييز والاحتكار. فجعل الكتابة للرّجل، والمكاتبة للمرأة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ مصطلح المكاتبة يتضمّن التّحذير من تعلّم المرأة الكتابة. بالتّالي القلم مذكّر لا من حيث الصّيغة اللّغويّة فحسب، وإنّما من حيث الصّنعة الثّقافيّة والوظيفة الحضاريّة.
هذا هو النّاتج المعرفيّ لسيطرة الرّجل على الكتابة وعلى تاريخ اللّغة. وحين بدأت المرأة تزاحم الرّجل في كافّة ميادين الحياة، لا سيّما في الكتابة، أثارت فينا السّؤال الآتي: هل تستطيع المرأة أن تغيّر المعتقد الموروث بأنّ الكتابة حكرٌ على الرّجل؟
في الواقع، يعتبر الأدب النّسائيّ عربيًّا ظاهرة حديثة، بانت ملامحها خلال القرن العشرين، ويعدّ من بين المصطلحات الإشكاليّة المثيرة للجدل. فمجموعة من الكاتبات يرفضن توصيف إبداعاتهنّ في الشّعر والسّرد بالأدب النّسويّ، معتقدات بأنّه ينطوي على محاولة لتحجيم حضورهنّ الإبداعيّ على السّاحة الأدبيّة.
استنادًا إلى رأي الكاتب المغربيّ عبد اللّطيف الوارديّ، إنّ الأدب النّسائيّ حديث، لكنّه يؤطّره تاريخيًّا ضمن إشكاليّة الوضعيّة التّاريخيّة التي كانت عليها النّساء في العالم العربيّ، موضحًا أنّه كانت توجد عبر التّاريخ الثّقافيّ نظرة دونيّة ناجمة عن البنية الذّهنيّة للمجتمع العربيّ كانت ترى أدب المرأة بوصفه ضعيفًا لا يضاهي أدب الرّجل.
والواقع أنّ هذه النّظرة لم تتغيّر إلّا مع اشتداد الدّعوة الإصلاحيّة منذ أوائل القرن العشرين لتحرير المرأة، وقد شكّل الأدب النّسائيّ إضافة نوعيّة مهمّة للإنسانيّة كافّة، إذ أضفى نوعًا من التّوازن في الرّؤية إلى العالم. والأدب بشكل عامّ، والعربيّ منه بشكل خاصّ، لم يقمع المرأة، وإن بقيت إطلالتها خجولة عبر العصور. والصّور التي ظهرت فيها المرأة هي صورة الأمّ طبعًا، التي طالما يناديها الشّاعر العربيّ في قهوتها، أو في هزّات سريرها، أو في حنوّها على الفتى، من دون أن تصبح: أمّه هو، والمتّصلة بدمه هو.
وتُخالف هذه الصّورة صورة “المومس” عند الياس أبي شبكة ونزار قبّاني وبدر شاكر السّيّاب وغيرهم، أو صورة “مرتا البانية” وهي صور لا تعكس حال هؤلاء النّساء، بل تبدو مدوّنة مواعظ وتنبيهات. فهي تؤكّد القواعد الأخلاقيّة والسّلوكيّة السّارية في المجتمع التي أنتجها الرّجل ووضعها في نمط: المنقذة – الخائنة.
ومن الصّور أيضًا، صورة المرأة – الرّمز التي تحتلّ أجمل الصّور والقيم (الأرض – الخصب – التّجدّد). وفي قصائد الحبّ ما تزال المرأة صورة تعكس تمثّلات الوعي الذّكوريّ. ونتحقق منها في صورة شهرزاد، التي سرت في أدبيّات أوروبيّة وإنكليزيّة وفرنسيّة، ثمّ في الأدبيّات العربيّة، والتي تفيد أنّ شهرزاد في “ألف ليلة وليلة” بطلة “نسويّة” عربيّة، وهي تأكيدات ترى إلى المرأة في دهائها.
بالتّالي، إنّ الأدب العربيّ وإن تغفل عن دعم حقوق المرأة، فهي الآن تثبت نفسها على السّاحة الأدبيّة، تكتب بحرّيّة من دون أن تكون تابعة لأحد. صوتها يتحدّى كلّ مظاهر القمع، وقلمها يعبّر عن حرّيّتها ورغبتها بالانعتاق من كلّ التّقاليد البالية.
14- كلمة أخيرة للمرأة العربيّة عبر فضاء “وكالة أخبار المرأة”.
أوّلًا أريد أن أتوجّه بالشّكر إلى وكالة أخبار المرأة، وإليك أستاذ محمّد على هذا الحوار الممتع، وهذه الأسئلة المحفّزة التي دفعتني إلى البحث والتّمحيص والتّنقيب.
وما أودّ أن أقوله إلى المرأة إنّ الرّجل، وإن كان حقًّا واضع اللّغة الوحيد، فهو لم ينشئ اللّغة ضدّ المرأة. والعربيّة ليست مذكّرة، وإن كان بعض تكويناتها يحتاج إلى تبيّن ومساءلة، بدليل أنّها خصّت المرأة بأدوات خاصّة بالرّجل وأخرى بالنّساء.
أيّتها المرأة، حينما تغرّد العصافير، يتردّد صوتها في الفراغ الصّامت. فارفعي صوتك وسط الصّمت اللّغويّ، ليكون لك لغة تضارع لغة الرّجل وتقف معها. فطريقك إلى موضع لغويّ إبداعيّ لن يكون إلّا عبر المحاولة الواعية نحو تأسيس كتابة جديدة تحمل سمات الأنوثة، وتتموقع في نصّ لغويّ يعكس ذاتك التّوّاقة إلى ملامسة أشعّة الشّمس المتناثرة في الفضاء