الشعر المؤسس للكهانة
قبل أن تعرف الكهانة، كان الشعر يبسط سلطانه.
إهتم به الناس وإحتفوا به وقدموا الشاعر ملكا في مجتمعاتهم. أكرموه أي إكرام، وجعلوا له سيادة روحية عليهم. جعلوا له سيادة “طقوسية” عليهم، أحلم بكثير من سيادة شيخ القبيلة “الرهابية”، الذي نافسه السلطان.
ديوان الشعر، هو أول كتاب عندهم. كانوا يجمعونه في صحائف من جلد، ومن سعف ومن طين ومن حجر.
كان مجتمع القبيلة، يتلمس له ركنا، لا تصل إليه الأيدي، خشية عليها، لا خشية عليه.
إعتاد الناس، أن يجفلوا إليه، في الأماسي والأسحار. يقدمون عليهم شاعرا أو خادما له، يسمونه خادم الشعر، يرتل عليهم منه، ما تستسيغه القلوب، وما تتشنف به الآذان. مكتوبات الشعر، كانت أوقع في النفس. يخشاها القوم ويرهبونها كحلم. ولا يدرون بسرها. يجعلونها مرة “مكتوبة.” يجعلونها رقية. ومرة شفاعة ترتجى. ومرة ملمسا ومتلمسا للحوائج ولقضاء الحوائج، إذا ما عز مطلبها.
كان أهل المجتمعات القديمة، في البداوة وفي الحضر، يرهبون اللسان، ويرهبون الكتابة، تماما كما يرهبون السنان. جعلوا من الكلام الشعري، كلاما مسحورا. ومكتوبات مسحورة، يستعان بها بلا رمح ولا سيف، ولا حرب. كانوا يقولون: أقعدهم الشعر عن الحرب.
كان الشعر يؤسس للكهانة دون أن يدري: قول مسحور. وكتاب مسحور، وخلفهما رجل يرتدي جبة الشعر، ويقف واعظا بين الجموع. أو ينتحي وخادمه، في الأماسي وفي السحر يرتل ما في قلبه، أو ما في كتابه، من الشعر.
بهذا المعنى، يمكن أن نقول إن الكاهن، كان قد إنشق عن الشاعر، وليس العكس.
كان الكاهن ظلا. ثم صار رجلا، أخذ كتابه ولباسه من الشاعر، بعدما أمضى زمانا يعيش متخفيا، تحت ثياب الشاعر، أو في ظله. ثم إذا هو ينشق عنه مختصا بالكهانة وحدها دون الشعر. وهذا هو أول إختصاص، ينشق عن مؤسسة في التاريخ. إنه إختصاص الكهانة المنبثقة عن توأمها: الذي هو الشعر.
هل نقول إن الكلمة إنما هي أصل الشعر، وإن على هذا الأصل، نهض البناء الأول، فأرسى دار الكهانة الأولى في التاريخ.
دار الكهانة رست في الركن ذاته، حيث كان يجلس الشاعر. ثم إنزاح الشاعر، وإنزاح معه ديوانه وشعره، لمصلحة الكاهن، فإحتل كرسيه وتربع على عرش الكهانة.
كيف صار ذلك؟ هذا هو السؤال المركزي!.
كان الكاهن، في ظل الشاعر، يشعر بقسوة الصنعة عليه. ما كان لأي من طالبي الشعر أن يصنع الشعر. تماما مثل طالبي الثياب، ما كانوا قادرين على صنعتها. لهذا كان الكاهن ينشق عن الشاعر، ويدخل في ولاء مع شيخ القبيلة المحسد له. الكاره له. المتربص به تنكيلا و قتلا. حين ظل الشاعر متأبيا على شيخ القبيلة.
نحن إذن أمام أول تحالف في التاريخ بين الكاهن وشيخ القبيلة.
لم يتمكن الكاهن من صنعة الشعر، فإنشق عن الشاعر إذا، وإلتحق بشيخ القبيلة.
هل نقول إن الكاهن خان معلمه، ومالأ شيخ القبيلة عليه. إنها ثاني خيانة في التاريخ. قبلها كانت خيانة شيخ القبيلة للشاعر.
إن تاريخ العلاقة بين الأقانيم الثلاث: الشاعر والكاهن وشيخ القبيلة، ربما يشي بذلك. وهذا ما يجب أن نستدركه، ونفصل فيه أسبابه ودواعيه في مقالة قادمة.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية
