الدخان الأبيض
أخيرا، بعد 13 شهرا، صعد “الدخان الأبيض” من إجتماع الرئيسين: ميشال عون- نجيب ميقاتي. وحضر الرئيس نبيه بري فتشكلت الحكومة. وصدرت للحال، مراسيم التشكيل.
كانت ظهيرة يوم الجمعة10/9/2021، ليست كما قبلها. كانت ظهيرة مباركة. شهدت على ولادة آخر الحكومات، في عهد الجنرال ميشال عون.
الدخان الأبيض، حين صعد من مدخنة القصر الجمهوري في بعبدا، أنعش نفوس اللبنانيين.
لأول مرة في حياتي، قدمت التهاني بولادة حكومة، تماما كما عادتي في تقديم التهاني بعيد، أو بمولود جديد. أو بفوز في إمتحان جسيم، أو بنيل شهادة جسيمة كريمة.
لم يكن ببالي ان أحصد ذلك الفرح، وأنا أزور الأستاذ مهدي حلاني، في إستديو، ب”Elizee”، بشارع عبد العزيز، قبل تقاطعه مع المقدسي، أن هذة الزيارة له، و للمرة الأولى، ستكون تاريخية، لا يبلوها الدهر.
كانت زيارة عفوية بكل معنى الكلمة.
إتصال من الأستاذ مهدي، فتلبية سريعة لأنني كنت، قد أنهيت عملي في Starbucks، بجواره.
علم الأستاذ مهدي بصعود الرئيس نجيب ميقاتي إلى بعبدا، فجعل يتتبع الخبر على الشاشات، لإحتشادها هناك.
تناولنا :النيسكفيه”، وقطعا من “المن والسلوى”، وما كان يدور في بالي ولا في باله، أننا حقا في “مناسبة وطنية”. أعظم مناسبة وطنية.
كان الأستاذ مهدي كارها شديد الكراهية للفراغ الحكومي. وكنت كلما قلت له: “هانت”. ها هو الرئيس المكلف في بعبدا. يجيبني: ما عدنا نصدق يا دكتور. ما قرأت “حكاية راعي الغنم” برأس الجبل.
ما كان، واحدنا أو كلانا يعلم، أن هذة الزيارة، هي الأخيرة للرئيس المكلف نجيب ميقاتي. وأن “راعي الغنم” في رأس الجبل، سيصدق هذة المرة، إلا حين ظهر شريط على الشاشة: “الرئيس بري يتوجه إلى القصر الجمهوري”. ثم نراه إذ هو يهم مسرعا في الدخول، ب”قناع كورونا”. ثم إذ نحن لا نتحدث مع بعضنا، لشدة ما أصابنا من وجوم.
وأخيرا،”فإذا الله قد عفا”.
ووقع الرئيسان المراسيم. وعصفت صالة الشاشات. زفت الخبر السعيد. فوجدنا نفسينا نهجم: واحدنا على الآخر. ندخل في عناق غير محسوب. نتبادل التهاني، بولادة الحكومة الجديدة.
صار كل منا، يبرع في تقديم حججه، على أنه هو الأسبق في القول: إن هذه الزيارة هي الأخير لبعبدا، و إن الرئيس ميقاتي مكلفا رائدا. و”إن الرائد لا يخذل أهله”.
هم عظيم، مثل جبل عظيم، نزل عن كتفينا. كنا نشعر بذلك ساعتئذ حقا.
تفتح وجه الأستاذ مهدي، تفتح الورد، لهذا الخبر. أما أنا، فخرجت أزفه للناس. كل الناس. ممن أعرفهم وممن لا أعرفهم. فأراهم ينشدهون. فيسرعون إلى معارفهم وأصدقائهم وأهلهم، يزفون لهم الخبر السعيد.
أخذت طريقي إلى البيت من تقاطع الحمرا/ عبد العزيز.
كنت أرى تجمهر الناس على دكاكين الصيارفة. على جانبي شارع الحمرا. كان الناس يتهافتون على الشبابيك والنوافذ. كانوا يأخذون بأذيال “أجير الصيرفي”. يتمسحون به. يرجونه. يرشونه. حتى يسهل لهم بيعة من الدولارات.
كان الدولار يتهاوى، بشكل لا يصدقه الناس.
تذكرت تهاوي تمثال الرئيس صدام حسين في ساحة التحرير ببغداد، والناس لا تصدق ما ترى. يتهاوى تحت ضربات المطرقة بحديده الصلب، والناس لا يصدقون ماذا يرون.
تعجلت إلى البيت. كنت أنهب شارع الحمرا نهبا. أقفز القفزات العراض، مثل مجنون مذعور أصابه المس، حتى أزف الخبر لأهلي.
غير أنني كنت، وأنا في طريقي، أضطر لعناق هذا، وتقبيل ذاك. وحين يسائلني معانقي عن الخبر متلهفا، كنت أقول له: ما سمعت بعد: شكل الرئيس ميقاتي الحكومة. يسألونني متلمسين الخبر اليقين: مضى الرئيس عون حقا. وقع مرسوم التأليف!. فأجيب: أن نعم.
تهاوى الدولار من عتبة العشرين ألفا، في لحظات، إلى عتبة الأربعة عشر ألفا.
صار الناس يبالغون. إختلط الدولار بالتشكيل. صارت له خلطة عجيبة.
كانت الشاشات تعيد مشهد الرئيس نجيب ميقاتي هامة، هاما بالدخول على عجل. بيده لائحة التأليف. يلوح بها للموظفين وللمراسلين، في البهو.
صنع له الناس أسطورة، بعد أن سمعوا بصدور المراسيم. شاهدوه يلوح لهم بالورقة على الشاشة، كما الأسطورة. خلطوا بين ورقة الدولار وورقة التأليف. شاهدوا بأم أعينهم، تهافت الناس على دكاكين الصيارفة، يرمون الدولارات لهم.
سرت شائعة بينهم مثل النار في الهشيم: إن الرئيس نجيب ميقاتي، كان يحمل ورقة: كتب عليها الدولار بعشرة آلاف. فهب لها الناس.
“الدخان الأبيض”، ظهيرة الجمعة المباركة، في يوم التأليف، أتى بالأمر العجيب. أتى بالعجب العجاب. أتى بالرجل الأسطوري. أتى بالرئيس النجيب.
وأما الناس، فهم لا يزالون ينتظرون. وربما يطول الإنتظار أو يقصر. ولكنهم يعتقدون بقوة إن الرئيس ميقاتي، رائدا: و “إن الرائد لا يخذل أهله.”