الرقش على الصخر
سواء تحدثنا عن الرسوم على الصخر، أو تحدثنا عن النقش على الصخر، أو تحدثنا عن الرقش على الصخر، فإننا نكون بذلك، كمن يطلق دعوة للعودة إلى الطبيعة، والتمعن فيها، وتبيان مقدار الإبتعاد عنها وقتلها وتزييفها، والإساءة إلينا، قبل الإساءة إليها.
كان إرتباط الإنسان بلبنان، منذ سحيق الزمان، إرتباطا بطبيعته قبل كل شيء آخر.
كانت الطبيعة اللبنانية، هي التي تشده وتوطد أواصر التعلق به. وتأسره حتى لا يقوى على الإنفكاك عنها.
كانت الطبيعة اللبنانية الحيز الذي ينقش عليه نفسه، قلبه. لا يعود يرى نفسه إلا على صخرها، إلا على وديانها، إلا هضابها وجنائنها وأنهارها.
تعامل اللبناني القديم مع الطبيعة، تماما كما يتعامل مع والدته. تماما كما يتعامل مع أمه. كان يشعر برابط قلبي، يشده إلى كل ذرة من ترابها. إلى كل حصوة من حصواتها. إلى كل طوبة. إلى كل لبنة. إلى كل كسرة . إلى كل قلعة من قلوعها.
كان حصى جلولها، يعلق في قلبه، تماما كما تعلق نفسه بحجارتها بصخرها.
يبادر منذ صغره لتهجي حروفها، تماما كما يتهجى الطفل كلامه، حين ينادي أمه في منامه.
لهذا، قصب اللبناني الحجر، قبل أن يقصب الجبل. قبل أن يقصب بيته. قبل أن يقصب جسره وعرزاله.
جلول وحقول وبساتين وجنائن وينابيع ودروب، قصبها تقصيبا. كأنه كان يبدعها من جديد. كأنه كان يمنهحا القيمة الزائدة.
كانت الجبال مثل أحجار من الماس، نثرت فوق البسيطة الخلابة. وكانت الدروب إليه تشقها الأنهار وتحيكها الينابيع. تنطلق من ثغر البحر إليها.
لذلك ربما، كنت ترى قراها معبأة بالموج. لذلك ربما، كنت ترى صدور رجالها ونسائها معبأة بالموج. لذلك ربما، كنت ترى في كل قرية عروسا من البحر. لذلك ربما، كنت ترى في أعلى صخور الجبال رقشا ونقشا ورسما لأسماك البحر. لآلهة البحر. لأشرعة البحر.
متى تسنى لك تقليب هذة الصفحات من الجبال ومن القرى ومن البيوت ومن الدروب، لتأكدت بالمحسوس الملموس، عظمة الجبال وعظمة الرجال، الذين صنعوا هذي الأرضين بالفؤوس الصخرية. أو بالأعواد، التي تعاند الفؤوس المعدنية. أو بالطوب المجبول بتراب من ذهب، وبماء من نبع اللبن وبماء من نبع العسل.
قرأ الأجداد القدماء الحروف: رسما ونقشا ورقشا، على الحجر، وعلى خيام الشجر.
كان السنديان له مخيمه في الجبل، فإستأنس به اللبناني القديم، وبنى فيه صومعته.
كان الصنوبر والشربين واللبان، كما هياكل الدهر من غابات الأرز، له حراسه في الأودية من شجر الحور ومن شجر الدلب. يصطف له مثل العسكر من ثغر البحر، ويصعد إليه، كما تصعد رجال القوارب وئيدا وئيدا على أكتاف النهر.
رعى اللبنانيون جبالهم. ثم رعتهم جبالهم. تبادلوا العشق، عشقا بعشق. وكانوا لا ينفكون عن نقش كل شيء على الأكباد كانوا لا ينفكون عن رقش كل شيء على الأكتاف. كان لا ينفكون عن رسم كل شيء، على أعجاز الصخور. على سيقانها، على رؤوسها، ولو طالت بأفواهها، ولو طالت بأنفاسها، أعنان السماء.
أية روح جميلة، هي تلك الروح التي كان يتجمل بها اللبناني. التي كان يتجمل بها الجبل.
يغسل له البحر كل يوم قدميه، قبل أن يشق الفجر نوره عن صدره. ثم يتوضأ بالينابيع، ويتلو صلاته على أوراق الشجر ويقيم معمدانه في جوف غار يصب لجينه على التيجان. ويقرن ساعة الميلاد بسويعات الزمان.
ما عرف اللبناني، ولا عرف لبنان، منذ قديم الزمان، إلا بقلاعه.
قلاع وراء قلاع. مثل الجبال. مثل المدن . مثل القرى. تساندت وراء بعضها، حتى تحصي الطيور في السماء. وحتى تعد الأسماك في البحر: قلعة عرقا، قلعة طرابلس، قلعة المسيلحة، قلعة الفيدار، قلعة حارة صخر، قلعة جونية، قلعة بيت مري، قلعة بيروت، قلعة صيدا، قلعة صور.
وراء هذي القلاع في الثغور، تساندت القلاع، في رؤوس الجبال: قلعة عروبة، وقلعة آل سيفا، وقلعة إهدن وقلعة بشري، وقلعة تنورين، وقلعة اللقلوق، وقلعة حريصا، وقلعة بيت مري، وقلعة بيت الدين، وقلعة نيحا الشوف وقلعةجزين، وقلعة جباع، وقلعة تبنين. وأم القلاع كلها، قلعة بعلبك. وبين يديها: قلعة نيحا البقاع، وقلعة عنجر. ناهيك عن قلعة راشيا، وقلعة حاصبيا، وقلعة شليفا، وقلعة مشغرة، وقلعة بشامون.
رسوم من قلوب رجال عمرت بالقلاع والجبال، نقشت عليها، منذ قديم الزمان، القز والعز. ثم رقشتها في الكهوف الدهرية بالنور في جعيتا وفي الضنية وفي عبرين وفي إجدعبرين ووادي نهر الكلب، ووادي نهر إبراهيم ووادي نهر قاديشا، ووادي نهر الجوز، ووادي نهر الليطاني والعاصي والحاصباني والوزاني. ووادي نهر عودين.
هذا هو لبنان، إن كنت تبحث عنه، في المعاجم والقواميس، وفي خرائط الأرض. وفي خرائط التاريخ. وفي كتب الجغرافيا. وفي كتب الرحلات.
لبنان ليس له علاقة، لا بشرا ولا حجرا. لا رجلا ولا جبلا. بهذة الطوابير. بهذة الخزانات. بهذة المستودعات، بهذة المنهوبات. بهذة البضائع الهالكة والفاسدة والتالفة.
لبنان ليس له أدنى علاقة بهذة الجرائم الموصفة: رصفت النفايات على الشطآن الممالك القديمة التي كانت تزين بعرائس الدفلى والوزان وعرائش الورد والياسمين.
لبنان ليس له أدنى علاقة بالمدنسين وبالمدلسين، وبالمخبرين، وبالمتصعلكين.
لبنان ليس له أدنى علاقة بالمخربين. ليس له أدنى علاقة بالسارقين، وباللصوص وبالمحتالين.
لبنان ليس له أدنى علاقة بالمتشيطنين.
لبنان ليس له أدنى علاقة، لا برجاله ولا ببحاره ولابجباله ولا بترابه، بهؤلاء الماجنين، الذين باعوا السيد قبل الفجر بثلاثين.