سحر بيروت
السحر مثله مثل الثلج، يذوب أيضا. تعظم الحرارة، فيذوب الثلج. وتعظم الظلمة. تعظم العتمة، فتذوب المدينة، تختفي. تذوب لمسة السحر عنها. يذوب السحر الذي كان يغطيها.
أمس، كانت بيروت على موعد مع العتم. كانت غارقة في الظلام. ذابت زيناتها فجأة. إختفت شوارعها. إختفت أحياؤها. إختفت معالمها. صرت ترى الناس يتسللون من البوابات مثل القطط، مثل الجراذين. مثل كلاب الذاوات. سارعوا إلى أكياس النفايات المحشوة بالبقايا وبالمخلفات وبالمهملات، فصاروا يجرونها جرا، وقد ثقلت عليهم، وإهترأ إهابها وتمزق وتنتف وتناتش بين أيديهم وبين أصابعهم وبين قبضاتهم. كان يعاندهم. فكانوا يتخلون عنه حيث وصل من الرصيف، بعد لفظ كثيره أثناء الطريق.
ذاب السحر عن بيروت الليلة البارحة. ذاب سحر بيروت. كنت ترى بوابات البنايات شاخصة، مفزعة، مثل جنود الإحتلال. مثل قنطرات ، مثل عتبات العمارات الحديثة والفخمة، سوداء سوداء.
كانت مداخلها اشبه بأفواه المغاور. أشبه بالمغر التي فغرت أفواهها من أول الدهر.
كانت عمارتها تتساند في الظلمة ، وكانت ظلالها تمتد، تمتد، حتى لتكاد تبدو قطعة واحدة من الرجم. أو قطعة واحدة لشبح من الأشباح.
جميع من نزلوا من أبنية بيروت إلى شوارعها، الليلة الماضية، كانوا يبحثون عن أوكسجين. عن هواء. كانت تجمعاتهم، جفلى. يبحثون عن مقهى، فلا يجدونه. يبحثون عن رصيف يقيلهم فلا يجدونه. كان يبحثون عن حانوت، عن دكان. عن حانة. عن محل يقفون على واجهته، فلا يجدونه. كان العتم يلف المدينة، ويزيل عنها سحرها.
إنقطعت الكهرباء طوال الليل عن بيروت، فذاب سحر مقاهيها ومتاجرها. ذاب سحر أرصفتها. ذاب سحر عماراتها. ذاب سحر ناسها. صاروا جميعا مثل القطط التائهة في الشوارع، لا يسكنون ولا يستقرون ولا يهدأون.
هاموا على وجوههم، فماسحر بيروت
السحر مثله مثل الثلج، يذوب أيضا. تعظم الحرارة، فيذوب الثلج. وتعظم الظلمة. تعظم العتمة، فتذوب المدينة، تختفي. تذوب لمسة السحر عنها. يذوب السحر الذي كان يغطيها.
أمس، كانت بيروت على موعد مع العتم. كانت غارقة في الظلام. ذابت زيناتها فجأة. إختفت شوارعها. إختفت أحياؤها. إختفت معالمها. صرت ترى الناس يتسللون من البوابات مثل القطط، مثل الجراذين. مثل كلاب الذاوات. سارعوا إلى أكياس النفايات المحشوة بالبقايا وبالمخلفات وبالمهملات، فصاروا يجرونها جرا، وقد ثقلت عليهم، وإهترأ إهابها وتمزق وتنتف وتناتش بين أيديهم وبين أصابعهم وبين قبضاتهم. كان يعاندهم. فكانوا يتخلون عنه حيث وصل من الرصيف، بعد لفظ كثيره أثناء الطريق.
ذاب السحر عن بيروت الليلة البارحة. ذاب سحر بيروت. كنت ترى بوابات البنايات شاخصة، مفزعة، مثل جنود الإحتلال. مثل قنطرات ، مثل عتبات العمارات الحديثة والفخمة، سوداء سوداء.
كانت مداخلها اشبه بأفواه المغاور. أشبه بالمغر التي فغرت أفواهها من أول الدهر.
كانت عمارتها تتساند في الظلمة ، وكانت ظلالها تمتد، تمتد، حتى لتكاد تبدو قطعة واحدة من الرجم. أو قطعة واحدة لشبح من الأشباح.
جميع من نزلوا من أبنية بيروت إلى شوارعها، الليلة الماضية، كانوا يبحثون عن أوكسجين. عن هواء. كانت تجمعاتهم، جفلى. يبحثون عن مقهى، فلا يجدونه. يبحثون عن رصيف يقيلهم فلا يجدونه. كان يبحثون عن حانوت، عن دكان. عن حانة. عن محل يقفون على واجهته، فلا يجدونه. كان العتم يلف المدينة، ويزيل عنها سحرها.
إنقطعت الكهرباء طوال الليل عن بيروت، فذاب سحر مقاهيها ومتاجرها. ذاب سحر أرصفتها. ذاب سحر عماراتها. ذاب سحر ناسها. صاروا جميعا مثل القطط التائهة في الشوارع، لا يسكنون ولا يستقرون ولا يهدأون.
هاموا على وجوههم، فما عرفوا في أي إتجاه كانوا يسيرون.
مدينة عاصمة، هاجمتها الظلمة. هاجمتها العتمة فجأة، فأحالتها إلى قطعة فحماء من الليل.
كانت مصابيح السيارات الشاردة في الشوارع، تبدو مثل عيون الهررة السوداء في كهف مهجور كثيف العتمة. مقفر منذ زمان بعيد.
ذاب السحر عن بيروت. كانت قبل سنتين، أو قل ثلاث، ترقص بالناس. تتراقص حتى ساعات الفجر. ذاب السحر عن نواديها، عن فنادقها، عن واجهاتها البحرية. فكل جهاتها البحر. كل جهاتها السحر. لم تعد تلوح للسفن من بعيد. حتى المنارة أطفأت أنوارها. صارت كعامود ملح، أو كعمود روماني قديم.
ليلة البارحة، كانت صخرة الروشة طافية على وجه البحر، مثل قتيلة. بدت من بعيد وأنا أقرع الكورنيش قبالتها بالعصا قرعا، من شدة العتم، وكأنها سقطت من قوارب الموت، تجول اليوم، في الشواطئ، تنقل غرقى الهاجرين، غرقى المحاربين، إلى الرمل البعيد.
تخيلتها كانت تريد الهروب إلى قبرص، فإستوحش البحر حكايتها، ونفضها على وجهها. كبها للذقن. فإستلقت جثة على الرمل.
كانت الليلة الماضية، ليلة الإنفجارات في بيروت. ليلة التفجيرات في بيروت. لم لا!
محطة في الحرش/ قصقص، تنفجر. فتهلع البسطة. يهلع رأس النبع. يعم الظلام المزرعة، وترتدي ثوب الحزن، ثوب الحداد.
كانت معركة المحولات تشتعل على كل الجبهات. فلا تسمع إلا عن حريق في محطة هنا، أوحريق في محطة هناك.
محطات بيروت، محولاتها، تنفجر واحدة بعد أخرى، كأن القوم، قد دخلوا في معركة منظمة. لم يبق محول للكهرباء، في الشرقية أو في الغربية، إلا أصبح تالفا من شدة تقادم الدهر. من شدة التحميل.
لم يبق في بيروت صالح، صار الجميع سواسية كأسنان المشط.
الناس تأكل بعضها بعضا، في المحال. وفي المصالح. وفي الأعمال وفي التجارات. ترى وجوه الناس تسود من سوء ما يبشرون به من إرتفاع الأسعار. من شدة الغلاء.
لم يعد بإمكان الناس أن يزورا بعضهم بعضا. لزموا مناطقهم. صاروا كأنهم في فيدراليات. حلقت أجور السيارات والحافلات.
غادر بيروت أهلها. غادر بيروت أهل القرى. حل فيها الغجر، مثل البوم. فلم يعد بمقدور الناس العيش، بلا خبز ولا نقل ولا ماء ولا كهرباء ولا دواء.
ذاب سحر بيروت. لم تعد “عنقود الضيع”. صارت مدينة مهجورة، مغلقة الأبواب. مغلقة الأسواق. لم يعد إسفلتها مزهرا. صارت الأوساخ تقهره. صار شديد السواد.
أرصفة بيروت ذاب عنها السحر. أغلقت محالها. أغلقت متاجرها .أغلقت مقاهيها وأنديتها. ما عاد يحط الحمام على نوافذها، حل البوم. صار كل شيء فيها إلى خراب.
بيروت اليوم مدينة قتيلة. شوارعها مبقورة البطن. أبنيتها مخلعة مهجورة. خلعت فستانها السندسي. صارت مدينة غجرية.
منذ الصباح الباكر وحتى السحر، لا ترى فيها إلا الغجر.
يتغولون فيها. يغوصون في قماماتها. يبعثرونها. يحملون منها كل معدن. كل زجاج. كل خشب. ولا يعفون عن كرتونها.
موحشة بيروت في الليل. فرغت للتسول. تسول الكبير. تسول الصغير. تسول النساء. تسول الرجال. تسول الفتية والفتيات. سالت عوائل المتسولين في ليلها. بسطوا عوائلهم في شوارعها، وكأنهم في خلاء. يرمون كل شيء على الرصيف، حتى أقذار الصغار. بذا حكمت على بيروت أقدارها.
نهار بيروت صار فاحما. مدينة جمارها محترقة. عادت كما كانت منذ مائة عام، جريحة الفؤاد. مسودة الأكباد.
وجوه ناسها في الشمس، صفراء من شدة البؤس. تراهم أخيلة في الزقاقات وفي الشوارع. موتى تسير على أقدامها، كرامة القدماء.
بيروت ليلة البارحة، مدينة تموء: بلا ماء بلا كهرباء. صغارها جوعى بلا حليب. مرضاها يموتون بلا دواء. ذاب عنها سحرها. فسدت كثلاجة بلا كهرباء.
.
د. قصي الحسين
( أستاذ في الجامعة اللبنانية )