إشارات السير
قليلة جدا، هي إشارات السير التي لا تزال تعمل في العاصمة بيروت.
قليلة جدا، هي إشارات السير التي لا تزال تعمل في المدن اللبنانية، وفي بعض المناطق، التي توافرت فيها، منذ زمن مبكر.
مدينة طرابلس، كانت قد توقفت فيها إشارات السير، منذ الحرب الأهلية العام1975.
تجددت إشارات السير في طرابلس، بعد الطائف. وبعد المباشرة بجسر الطائف. وبعد بناء الملعب الأولمبي. غير أن طرابلس كلها تعطلت، ولم تعد تصلح فيها إشارة سير. ولا ملعب بلدي. ولا ملعب أولمبي.
وجدوا أن طرابلس لا تصلح إلا كجبهة. لا تصلح إلا دشمة. لا تصلح إلا ثكنة. لا تصلح إلا لبناء المعسكرات. لأن لبنان ليس جاهزا للسلم. هو في طريقه إلى الحرب.
سألنا عن الإشارات الضوئية التي جهزت لطرابلس تالفة، لا عاملة. قالوا: إن طرابلس كلها إلى الظلمة. إن طرابلس كلها إلى الحرب. وما تنفع إشارات السير في الحرب. هل تنظم سير معركة.
إشارات السير المعطلة، صارت واقعا في كل لبنان، وليس في طرابلس وحسب. صارت بيروت مثل طرابلس لا تصلح لإشارات السير. صار لبنان كله، مثل طرابلس. لا يصلح لإشارات السير.
يحضرون اليوم في لبنان، لقندهار. يستدعونها لإنقاذهم من ورطة تفجير المرفأ. ومن ورطة الإنفجار الكارثي في التليل.
يستحضرون اليوم “قندهار”، في جميع تصاريحهم، لإنقاذهم من أهالي شهداء المرفأ ومن أهالي شهداء التليل.
يستحضرون قندهار، حين ينزل أبناء الشهداء على الأرض. لا يرون في وجوههم، اليتم والثكل والإعاقة والشهادة. يشيرون إلى قندهار.
يستدعون قندهار اليوم، حتى لا يتحرك ثائر في الشارع. حتى لا يتحرك الثوار.
يستدعون قندهار، لتكون “كورونا الشوارع”. فتخلى لمواجهة جائحة قد تخرج عن السيطرة. يقولون بإخلاء الشوارع على سبيل الإحتياط. يأخذون الناس عنوة، إلى قندهار، حتى يبطلوا الإصلاح. حتى يبطلوا التغيير. حتى لا يطالبوا بحاجات الناس اليومية: الخبز والدواء والكهرباء والمحروقات.
شأنهم اليوم البحث عن راجح، عائدا مع قندهار.
كل الدروب اليوم في لبنان مقطوعة بسبب قندهار. من العريضة الغربية، حتى رأس الناقورة. قطعتها قندهار.
كل الطرقات، صارت بلا سيارات. لا لزوم إذن لإشارات السير، بعد نزول قندهار إلى الساح، وسرقة البنزين والمازوت والغاز والكهرباء، ورغيف الخبز وعبوة الماء والدواء.
قندهار تمنع النور. تمنع الضوء. تؤجج الفتن . تنزل أهالي الشهداء إلى الساحات. فلا لزوم بعد اليوم للبيانات.
لا لزوم بعد اليوم، لإشارات السير. ولا لزوم بعد اليوم لتأليف الحكومة. ولا لزوم بعد اليوم للحكومة. ولا لزوم بعد اليوم للدولة.
قندهار على الأبواب، فكيف ترفع الحصانات، إذن، عن الوزراء والنواب.
قندهار على الأبواب فلا لزوم إذن، لمجلس النواب.
إشارات السير، كلها مطفأة. لا لزوم لها، لأننا في مواجهة قندهار. فما تنفع الإشارات في الحرب. “هل تحمي المدينة، من شظايا قنبلة.”
إشارات السير في لبنان، معطلة ، لأنهم لا يريدون للدولة: لا القول ولا العمل.
الدولة كلها ممنوعة عن الكلام. الدولة كلها ممنوعة عن العمل.
ليس في لبنان اليوم، إشارة واحدة للسير أو للسلم، أو لحكومة في طريقها إلى الحكم.
كل شيء إلى الحرب: في البنوك. وفي المتاجر. وفي المزارع. وفي القرى. وفي المدن. وفي العواصم.
حرب الإفقار. وحرب الإذلال. وحرب التركيع. وحرب التجويع.
حروب كثيرة، بإشارات سير واحدة “تحت ضوئية”.
حرب حكومة. حرب تشكيل حكومة. بإشارات سير “تحت ضوئية”.
حرب في لبنان طويلة. بطول فيلم أميركي طويل. بإشارات سير “تحت ضوئية.”
أطفأوا طرابلس، وأتوا لها بإشارت سير معطلة. وقالوا عنها: إنها قندهار. لتبرئة الذمة.
واليوم يعممون تجربتهم، في بيروت. وفي كل لبنان. يعطلون إشارات السير. وينتظرون، كما في طرابلس، إشارات “تحت ضوئية”.
فكم يطول إنتظار إبن طرابلس.
كم يطول إنتظاره مكلفا (…).
كم يطول إنتظاره رئيسا مكلفا.
كم يطول بنا إذن المقام، بإنتظار إشارات السير ال “تحت ضوئية”، لتشغيل إشارات السير الضوئية.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية