التاريخ: 12/08/2021
المقال رقم 29/2021
سكـر زيـادة، مـي زيـادة
بقلـم: رشـا بركــات (رايتـش) – حكايــات رشـا
“ها أنا أضع قبلة في راحة يمينك، وقبلة ثانية في راحة شمالك، طالبًا من الله أن يحرسك ويباركك ويملأ قلبك بأنواره، وأن يبقيك أحب الناس إلي…”
بتلك الكلمات المباركة وذاك الحب المقدس، رافق قلم وقلب جبران خليل جبران محبوبته مي زيادة منتظرًا منها الرد بكل ما أوتي من توتر ، من رجفة ومن بحر انفعالات وجدانية.
أجابت مي،
“أنا أخاف من الحب كثيرًا، ولكن القليل من الحب لا يرضيني…”
إنها مي زيادة، أديبة الناصرة. فقد ولدت ماري إلياس زيادة في الناصرة عام 1886، تلك المدينة الفلسطينية التي مشى على أرضها يسوع الناصري، سيدنا المسيح…وكما خطى المسيح درب العذاب، مشت السكر زيادة، التي أسمت نفسها مي زيادة، طريق الجراحات…
ماري كانت ضليعة في 9 لغات. نعم، فكانت مي زيادة تتقن العربية كلغتها الأم وكذلك الفرنسية، الإنكليزية، الألمانية، الإيطالية، الإسبانية، اليونانية، اللاتينية والسريانية.
أم مي زيادة من سوريا وأبيها من أصول لبنانية (هذا ما يقال عنه بعد النكبة والأمر يحتاج لتدقيق وذلك بسبب لبننة عدد من العوائل الفلسطينية بعد النكبة)، كانا يعيشان في الناصرة الفلسطينية (أو حقيقة أصول الأب فلسطينية)، عمل والدها إلياس مدرَساً في مدرسة الأرض المقدسة.
درست ماري أو الشهيرة ب مي زيادة في مدرسة الناصرة وبعد التهجير القسري للفلسطينيين والذين يعيشون في فلسطين ما قبل النكبة، أكملت دراستها الثانوية في دير الراهبات في عينطورة اللبنانية وتخرجت لاحقا من جامعة القاهرة، كلية الآداب.
أحبت مي زيادة بالمراسلة جبران خليل جبران الذي وقع في حبها أيضا واستمرت المراسلة بينهما لمدة 20 عاما ودون أن يلتقيا…
عانت ما تعانيه من عذابات متنوعة بفعل طمع وجشع بعض أقاربها في لبنان الذين وضعوها في مستشفى ما يعرف ب “المجانين” هكذا كانت تسمية تلك المستشفيات المخصصة للأمراض العصبية والنفسية في ذاك الوقت.
كانت مي، تلك الموهبة الفذة والمفعمة بالطاقات والإبداعات حيث أنها أبدعت في عالم المقالات والصحافة في لبنان و كذلك في مصر ونالت شهرة واسعة ممتطية حصان القيادة للفنون الشعرية والنثرية والأدبية وكذلك الكتابة والصحافة والترجمة.
عشقت المعنى الذي أودى بها نحو الهلاك لأن الدنيا تهوى القشور وتقتل الصوت العميق بل تدفنه حيًا كما اشتهار وأد البنات في الجاهلية.
حسد الإنسان المفلس الذي قام بإعلان قتل سيدنا المسيح، هو بذاته الذي كان السبب في وضعها على سرير فاقدي الأهلية دون دليل وبمنتهى القسوة والإجرام.
تلك الجميلة الحساسة العاشقة بصدق وشفافية، القاهرة للشقاء الذهني والرافضة لكل جداول الهمجية، تمزقت على أيادي أبناء جلدتها البشعة. مزقوها إربا إربا حتى أعلنوا خنق أنفاسها كليًا…لأنها مميزة ولأنهم هم، فاقدي الأهلية.
مي زيادة وجبران خليل جبران شكلا درسًا نوعيًا في عالم الوجد. وارتبطت روحي الفلسطينية اللبنانية واللبناني كارتباط فلسطين ولبنان في عالم الثورة والإمتداد الثقافي والإجتماعي. بحرين ببحر واحد ومملكة فريدة…
توفيت مي زيادة سنة 1941 في مستشفى المعادي في القاهرة بينما توفي المحبوب جبران خليل جبران في نيويورك سنة 1931.
عشر سنوات بعدك يا جبران كلهم أسى وقهر وإجرام وتنكيل إنساني. ما سبب الرقم واحد ما بين ال 31 وال41؟ هل لأن كلا الحبيبين عاشا وحيدين، كلَ في قارة ولكن جمعهما طيلة سنوات مراسلاتهما ذاك اليراع المقدس وتلك الورقة التي لطالما كانت ملجأ كل كاتب…ذاك الملجأ الصامت النابض، الضاحك الباكي، الحي والقتيل.
ماري الياس زيادة، سكر زيادة، مي زيادة لماذا رحلت؟ لا، أنت ذهبت للقاء الجبران…