عند المساء، يلملم الغسق أذيال ثوبه البنفسجيّ، وتجمع الكائنات غير العاقلة شتات بعضها، وتستعدّ للمبيت، أمّا أنا فكنت أنتظر وقع عصا جدّي الّتي كانت بمثابة المقدّمة الموسيقيّة لحكاياته الجميلة المصحوبة بلهاث أنفاسه المبحوحة المتلاحقة حينًا والمتقطّعة أحيانًا كنايِ قصبٍ حزين وهو يروي لنا أخبار الحرب العالميّة الثّانيّة، فأعيش أحداثها ومغامرات النّصر والهزيمة..وفرح البطولة وأسى الخيبة، فكنتُ حينًا أتوجّع، وحينا عيني تدمع، لكن لم يخطر في بالي بأنّ هذه القصص ستنمّي في داخلي إنسانًا يتلذّذ بالألم ويعشق الكآبة، ويفرح بالمآسي، وبأنّها ستجعلني ٱمرأً قابلًا لكلّ أنواع العذاب دون احتجاج أو اعتراض.
وقبل النّوم كنت أنتظر حكايات أمّي الّتي كانت معجمًا لها، وقاموسًا من الأمثال الشّعبيّة، بحيث لكلّ جملة من أحاديثها له مثل وقصّة وعبرة ، ممّا جعل مدرستي الثّانويّة تختارني لأمثّلها في مباراة للصفّ النّهائيّ مع مدارس الجوار في التّعبير الإنشائيّ وأنا في الصفّ السّابع متوسّط، لكثرة ما برعت في سبك التّعبير وسلاسته وبلاغته وحسن استخدام تلك الأمثال في مواقعها المناسبة..
وكان لاستقلال لبنان وتضحيات أبطاله واتّحاد شعبه، وثورة الفلّاحين ونضالهم، شغف خاصّ لسردها على مسمعي، فكنت أتخيّل نفسي حينًا الأمير فخر الدّين، وحينًا آخر “طانيوس شاهين”، ومع ذلك لم أكن لأتجرّأ مرّة على الاحتجاج على أيّ أمرٍ حتّى ولو كان لا يُرضي أحلامي أو طموحاتي أو رغباتي، لأنّ الاعتراض على ذلك يُدخلني في خانة سوء التّربية، وقلّة الأدب.
لكنَّ أكثر الحكايات الّتي كنت أحبّ سماعها هي قصّة سندريلا، حتّى إنّي عندما اشتريت جهاز عرسي رحت أبحث عن حذاء يشبه حذاءها كي أنتعله يوم عرسي ولم يخطر في بالي أنّني سأهرب من الخوف مثلما هربت سندريلّا بفردة حذاء واحدة وأترك الثّانية دون أنْ يتمكن أميري أن يأتيَني بها بسبب التّهجير إبّان الحرب الأهليّة، وأنّ أمراء العرب وأمراء الطّوائف كلّهم لم ًيستطيعوا أن يعيدوها إليّ.
وهذا ما أسّس في أعماقي الهروب من كلّ شيء باعتباره بطولة لا جبنًا، وكأنّه كان درسًا لترويض شعب بكامله على الهروب حتّى من ذاته.
أمّا أولادي، لاحقًا، فكانوا ينتظرونني كلّ ليلة قبل النّوم حتّى يسمعوا منّي أخبار مراهقتي المسلوبة وصبايَ المدفون في تربة النزوح والتّشرّد بسبب الحرب الأهليّة، وحرماني دخول المدرسة لمدّة سنتين لأنّ أهلي لم يعثروا على مكان مستقلّ يأويهم في تلك المناطق الجبليّة الّتي نزحوا إليها بدل بنايتهم الشّاهقة الّتي كانوا يسكنونها ،بسب الكمّ الهائل من النّازحين، وكم هو سعيد الحظّ مَن كان يجد ولو حظيرة يأوي إليها آنذاك.
وكم ضحك أولادي عندما أخبرتهم عن الدوخة، والدّوار الّذي أصابني من جرّاء وقوفي على شرفة الطّابق الثالث ومحاولتي النّظر إلى الأسفل بعد مرور خمس سنوات على وجودي في الجبل في غرفة أرضية تشتهي النّور أنْ يوصوصَ عليها من ثقوبٍ نسج العنكبوت لها ستائر، وقد انخفض سقفها تواضعًا، وانحنى بابها كهولة، وظهرت الأخاديد فوق أرضها، وترك الدّهر فوق جدرانها شقاوة طفولته وعبث مراهقته.
كلّ ذلك أصبح مع الوقت ماضيًا ساخرًا رغم إماطته بلثام القهر والحزن والألم.
وها أنذا اليوم أردّ على سؤال أحرجني أمام أطفالي آنذاك :” ماما ماذا سنخبر أولادنا عن ذكرياتنا في المستقبل”؟ فنحن لا شيء في حياتنا سوى ال”روتين” المملّ.
وهبت العواصف من كلّ ناح، تفقأ عين الاستقرار،
ورقص في مأتم الليرة الدولار، وبتنا لا نميّز الليل من النّهار، وغرق لبنان في تسونامي الوباء والأسعار، وعجز زعماؤه عن اتخاذ أيّ قرار، وصار وطن التّجّار، ومأوى الصّعاليك والفجّار، واستحال شعبه رمادًا بلا نار.
وعلا وجنتيَّ خجلٌ واحمرار من أولادي الّذين جنيتُ عليهم إذ أتيتُ بهم إلى الوجود.
عذرًا أولادي، لقد صار لديكم ذكريات تروونها لأولادكم، ولكن هل سيصدّقونكم ولا يتّهمونكم بالمغالاة؟!
هل سيصدّقون ما سيسمعون
عن حقبة تاريخيّة حريٌّ أن تُسمى بعصر الأسطورة، عصر الجنون؟
عصر اللّعب بالقانون؟
عصر رجال بلا أبطال، ووطن في مهبّ الأقدار؟
شعبه كأوكار نمل يدوسها الفُجّار ويَسحقها التّجّار ويُبيدها الدّولار؟
قصتكي جميلة جدا