أضحى طرابلس
لم ترتدي طرابلس، هذا الأضحى، بذلة العيد. خلعت عنها، ثوب العروس منذ زمان بعيد. وجلست في العراء قبالة البحر. مدينة لا يرويها البكاء ولا النحيب. وقد جف عنها النهر. وند عنها البحر. وغمرها الليل بسواده. ولم تتلمس بعد خطاطة النور، ولا خيوط الفجر.
طرابلس، صبيحة هذا العيد. ذبيحة من الوريد إلى الوريد.
عدت إليها، اليوم الذي يسبق اليوم الأول من أضحى هذا العام 2021. هو الذي يقع فيه19/7/2021.
كنت أشهد وأشاهد. بل كنت شهيد نصف قرن، أو أكثر بقليل. نصف قرن قطعته فيها، يوما بيوم، منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي. لم أخرم من أيامه يوما إلا في سفر. كما لم أخرم أضحى، بين أفيائها وحاراتها وشوارعها، كلها، القديمة منها والحديثة.
غير أن صيف هذا العام، إختلف علي. ولا أبالغ إذا ماقلت: أن أضحى طرابلس هذا العام، لم أره فيها. ربما كان في الحجر. ولو إنتهت كورنا في المدينة قبل أن تبدأ. قالوا: لم تجد كورونا أحياء لتصيبهم بسهامها.
قالوا: مدينة هلكت، قبل قدوم كورونا. فما دانت لها. ولا وقع لها، على رقاب أهلها، أقل دين. ولا كان في ذمتها عليهم مغرم ولا غرامة.
بدت طرابلس، “عروس الثورة” النافقة حقا. كل شيء فيها، صار متاريس. كل شيء فيها صار حطاما. من وادي الكنائس ووادي “قاديشا” و”هاب”، حتى محلة الزاهرية والمرجة والملولة وباب التبانة، وبرج السباع، وخانات الأسواق، وحماماتها، والحمام البيزنطي المقلوب. وحوض معاوية في الميناء لبناء السفن، حتى طلعة العمري، وطريق الأرز، وطريق الكورة الخضراء والزيتون والليمون، والمعرض الدولي.
هالني أن أتعثر، تحت قصر نوفل، فخر عمارة النهضة، بكومة عظيمة من “الدق والفحم”.
كان الرجل الأسود البدين والأشعث، يجرف الفحم الدقيق المتناثر تحت شباك بنك بيروت والبلاد العربية على أعظم محلة من منطقة التل. يفترش حصيرا، يصلح لرد الفحم المتناثر على الرصيف. ولرد لحمه المتكوم فوقه كقطعة ضخمة، عظيمة من الفحم. محا الفحم الأسود، وجه المدينة. محا ثغرها. محا رصيف الخمسينيات والستينيات الضاحك، حين كانت دور السينما على التل، تنظم المرور إلى شبابيك قطع التذاكر بين مسامير البلدية، وتحت أعين حراسها، الذي يضبطون نفثة دخان، ولو من سيجارة واحدة، مهربة، مخبأة. سيجارة واحدة لمراهق واحد.
ساحة التل، التي كانت زهرة ساحات طرابلس، صارت إلى ضواحيها المحطمة.
وقفت ساعة السلطان عبد الحميد، إصبع شهادة، على الخرائب المحيطة بها: مخفر التل ودائرة السجل العدلي، دشم عسكرية، محاطة بعدد عظيم من بلوكات الباطون التي تناطح الطابق الأول. تسد المنافذ من جميع الجهات، وتمنع القطط الثمان وحتى الهزيلة منها، على النفاذ من فجواتها، أو القفز من فوقها. وقف شارع عزالدين محطم القلب خلفها. وإختفت مدرسة الراهبات، ومعها الزهرات الحسان عن أرضها. إنزوى دار المعلمين والمعلمات، بين الدشم، وخلف متاريس. وإنزوى خلفها بيت الشيخ سعيد.
ليس بعيدا، تقع دار البلدية المحترقة من شبابيكها العثمانية. وتحتها مخفر البلدية ومركز الإطفائية، وحرسها الليلي.
أخلت دارها لشلل الفتيان، ترميها بالشهب النارية وتحرقها، في ليلة الشغب الحزينة.
يقتلني الحزن، وأنا أنظر لسرايا طرابلس، رائعة العمارة الحديثة. تعلوها أكياس الرمل. وتتقدم واجهاتها وجميع جنباتها الأشرطة والأسيجة والستائر المدلاة. أحالتها إلى مخيم لجوء للمحافظة. مخيم لجوء لمحافظ ثمين. يقتلني الحزن وأنا أنظر للسراي القديمة والأسواق المملوكية الحجرية المقبية. وللملوية العثمانية المتكئة على كتف النهر، تحت القلعة،ولجامع البرطاسي، المشهور. بنيت مئذنته على نصف دائرة، وزينت جدرانه بالمداميك المعشقة بالحجرين : الأسود والأبيض، يغسل حزنه كل يوم بماء النهر، ويعد العابرين على الجسرين.
أما مدخل طرابلس الجنوبي المميز بهندسته، وبنخيله وبأزاهيره، والذي كان شغف السواح والزائرين، فقد جرفته عروس الثورة، وخلعته عن وجهها، تعبيرا عن الفاقة والعوز وشدة الجوع.
أضحى الأسواق، هذا العام بلا زينات. بلا بز ولا خز ولا بذلات. بلا ثياب أطفال. بلا أثواب عيد.
أين أرجوحات أطفال العيد، تنصب في ساحات المدينة وفي أسواقها. أين أختفى أطفال العيد في الأضحى: خجلوا أن يخرجوا بأثواب مهللة مرقعة، قديمة.
طرابلس أضواها الجوع وأضناها. صارت مدينة هزيلة.
عروس المتوسط، وقد نأت عنه. عروس الثورة، بلا ثورة.
طرابلس صارت مدينة من ركام، في جميع حاراتها. مدينة من سخام. مدينة عوراء، غريقة أثمالها البالية.
أضحى طرابلس هذا العام، قلعة مخلعة الأبواب. بلا عساكر. بلا حراس. يسلبها السالبون كل يوم. رصيفا من هنا وزاوية من هناك. وتعلو العشوائيات وتخاشيب التنك، في حاراتها القديمة، وفي مناطق الضم والفرز الحديثة منها.
صار سقف النهر مكبا للنفايات، لعربات البالات، لحصر وفرش الصائعين والضائعين، ومروجي الموبقات والمخدرات.
عادت الأسواق الداخلية: الداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود. أخلتها الدولة لمن تتبنى، من العصائب والعصابات والسرايات.
كل الهبات التي أنفقت عليها، ذهبت هدرا. ولم يبق لها “إلا وجه ربها، ذو الجلال والإكرام”.
أضحى طرابلس هذا العام، غيره عن كل عام. فقر وتجويع وبطالة وعري وإنحلال، وركام فوق ركام، فوق ركام.
هرب لصوص الثراء، إلى مخابئهم. هرب لصوص الحارات والأسواق، إلى مغاورهم. وإختفى وجه المدينة الآمن، خلف الدشم.
ما عثرت في طرابلس، على باب التبانة/ باب الذهب. ما عثرت على محلة القبة، حيث مدرسة الأميركان ومدرسة الراهبات، ومدرسة الآباء البيض. والثكن العسكرية بحللها الفرنسية، وأسمائها المعربة.
ما عثرت على مباني كليات الجامعة اللبنانية، ولا المعهد الفني ولا الريجي، ولا المستشفى الحكومي. صارت جميعها ركاميات. ماعثرت على جبل محسن و كروم الزيتون وعرائش العنب، وعرائس الورد الجوري والزنبق الأبيض، في ظلال شجر الدفلى والزيزفون، قبالة مصافي التابلاين، وبركة سمك البداوي، ومشروع المنكوبين.
طلبت في محلة أبي سمراء داري. طلبت شارعي. طلبت الزيتون الذي كان يخيم حولي.طلبت نزلة الخناق. وجبل النار وبيت عبد المجيد الرافعي، ومحلة الطيارات. ومحلة دار العجزة وميتم الشعراني، ومحلة البحصاص وساحة السلام وساحة عبد الحميد، وجامعة المنار والكلية الإسلامية ومدرسة الهدى. ومدرسة الفرير ومدرسة راهبات عبرين، وثانوية روضة الفيحاء وبراعم الفيحاء وسوق البازركان وسوق الجوهرجية وسوق السمك وسوق القمح، وسوق النحاسين. كنت أرى خرائب وزرائب وزواريب، بلا أضحى بلا عيد بلا بهجة بلا سكان، بلا زائرين، بلا معايدين، بلا زوار.
كانت قلعة طرابلس، شاهدة على عصر. صارت قلعة طرابلس، شاهدة على قبر بطول نهر. كانت شاهد مقبرة، فوق حي المهاترة، يشهد على ترب الصالحين والمجاهدين وأهل العزم.
أضحى طرابلس هذا العام، غابت عنه مدينة العلم والعلماء. مآذن تنفرد بالدعاء. مآذن تجهش بالبكاء، وكنائس تقرع جرس الحزن، على تاريخ تولى: من العزة والكرامة والكبرياء.
طرابلس، أضحى هذا العام، جوع وفقر وركام. شوارع تندب حظها، في ظل جائحة، تعشق فيها الوباء مع الخواء.