..تحت عنوان ” السينما والتخييل في نصوص حميد عقبي ” أقام المنتدى العربي الأوروبي للسنما والمسرح ندوة شارك فيها النقاد : د. دورين نصر , د. عاطف الدرابسة , د. محمود خليف الحياني , د. وافية حملاوي , الروائي عماد البليك , والمخرج المسرحي د. جبار خماط .
أدار الندوة الفنان صبري يوسف وشارك فيها د. درية فرحات و د. ذكرى صاحب وتخللها عزف للفنان ذكريا شيخ أحمد .
هنا رابط فيديو الندوة :
النص الكامل لمداخلة د. دورين نصر حول مسرحية حميد عقبي ” لا شيء يحدث هنا ”
.. موقع ” ميزان الزمان ” حصل على مداخلة د. دورين سعد خلال الندوة . هنا النص الكامل لها :
قراءة نقديّة في مسرحيّة حميد عقبي: “لا شيء يحدث هنا”
بقلم: د. دورين نصر
يُعتبر فنّ المسرحيّة من أكثر فنون الأدب متعةً واستعصاءً في آنٍ معًا على كاتبه، وأشدّها حاجة إلى مهارة فنيّة خاصّة تستطيع أن تؤالف بين عناصر هذ الفنّ المتشعبّة من قصّة وممثّل ومسرح وجمهور وحوار، وأن تخضع من غير افتعال لقيود المسرح والتزاماته، وأن تتعاون كلّ هذه العناصر من غير تنافر حتّى يصل الكاتب إلى عمل فنّي متكامل.
ولأنّ المسرحيّة لا يمكنها في حدود الزمن المكفول لها أن تعالج أفعال الإنسان بنفس الحريّة التي تعالجها بها القصّة المرويّة، فإنّ المسرحيّة تختار من الفعل جانبه المثير، والأكثر قدرة على الإيحاء، والأوثق صلة بالحدث الرئيسي أو بما يسمّيه ستانسلافسكي بخطّ “الفعل المتّصل” والذي يعتبر بمثابة العمود الفقري لكلّ مسرحيّة.
وإذا كان للمسرحيّة أن تشترك مع سائر فنون الأدب الأخرى في أنّها ضرب من الأدب يعطيك مفهومًا حيًّا للحياة مع تشعّب مسالكها وتعدّد ضروبها، فإنّ لها من الطبيعة والخامة والأداء، ما يميّزها عن هذه الفنون. بمَ امتازت مسرحيّة حميد عقبي “لا شيء يحدث هنا”؟ وهل تمكّنت الكتابة من ترجمة ما يوجد في داخله من حلم وقلق ورغبة في الحياة ورثاء عشيقة كما أعلن في المقدّمة التي تمثّل العتبة الأولى للمسرحيّة؟
في الواقع، إنّ الحركة والنّصّ المسرحي يجب أن يظهرا غير منفصلين إذ لا يوجد عرض مسرحي من دون نصّ أو من دون ممثّلين، ومهما كانت مخيّلة القارئ واسعة، فإنّها لا تستطيع أن تعطيه الانفعال الخاصّ الذي يقدّمه عرض المسرحيّة على المسرح.
من هنا تعاملت مع هذه المسرحية كنصّ، محاولة رصد التقنيات التي وظّفها الكاتب في هذا الإنتاج الإبداعي.
في مسرحيّة “لا شيء يحدث هنا”: لا يوظّف الكاتب عقله وفلسفته وأدواتهِ ليؤثّث تفاصيلها وأحداثها وأمكنتها فحسب، وإنّما يحاول أن يشرك القارئ في هذا العمل من خلال محاولة رسمه الإطار العام لهذه المسرحيّة. فمسرحيّة حميد عقبي لا تحتفل بتجميع تفاصيل الصوت ولون الصورة وبهرجة الإضاءة فقط، وإنّما تحتلّ الفكرة المبهمة فيها مركزًا أساسيًّا، كما تكمن أهميّتها في أنّ الفعل الإبداعي والفنّي ينبني عليها.
تتوالى المشاهد تباعًا، حيث يبدأ الكاتب برسم الفضاءات التي تمثّل ديكورًا للأحداث: “يبدو المكان بسيطًا، في اليسار يوجد المكتب والكرسي والمكتبة، في اليمين الطاولة الصغيرة المخصّصة للطعام، في الوسط كنبة قديمة للجلوس… في العمق يوجد سرير نوم ترقد عليه صديقة الكاتب” ثمّ يقدّم لنا صورة موسّعة شاملة عن الشخصيّات، لكلّ منها مسار مبهم. فتتعدّد المشاهد، وتتراكم بنسق تصاعديّ، وتتبلور أكثر من خلال ملامح الشخصيّات التي يراوح المخرج بينها وبين الفضاء الخاصّ لها.
الصوت الأوّل: وهو كاتب، رجل في نهاية الثلاثينيّات من العمر، لا يحبّ الخُطب، ينتظر عشيقته، يجلس على كرسيّ خلف المكتب، وينشغل بالكتابة على آلة كاتبة.
بطل المسرحيّة وهو “الكاتب”، بالرّغم من أنّه مجرّد شخصيّة اختلقها الخيال، إلاّ أنّها تتحكّم في نسق المشاهد. وتلك المشاهد تتدرّج متصاعدة لعرض المسرحيّة وفق استراتيجيّة تبني الأحداث وتقحم المشاهد في البناء الدرامي للمسرح.
فالكاتب هو الذي ينتظر عشيقته، يحدث الفوضى، يراقب مرور الناس الذين لفظتهم الحياة وصاروا على هامشها. كالقِسّ الطاعن في السّن، السِّحاقيّة وغيرها. وهو الذي يخلق كائنات ورقيّة تذكّرنا بالكاتب الفرنسي لوي فرديناند سيلين في كتابه “رحلة في أقاصي الليل” الذي بثّ فيه كيفيّات تجاوز مرحلة الكتابة عن الواقع إلى كتابة الواقع مباشرةً.
فالمسرحيّة تنبني على العلاقة بين الواقع والحلم وتستدرج القارئ ليتفاعل مع المشاهد، إذ لا يتوانى المؤلّف عن التدخّل بين حين وآخر لبثّ روح الحياة في النّصّ المكتوب وهذا ما نسمّيه في اللغة الفرنسيّة “Didascalies”. فهو يحاول أن يسلّط الضوء على نبرة الصوت، التصرّفات، حركات الجسم، لأنّ التعبير بالحركة عن السرعة والبطء، وتعبير الوجه وتشكيل أساريره، تعتبر من الوسائل التي تعكس الشخصيّة الإنسانيّة في طبائعها وحبّها وانفعالها.
سأقرأ على مسامعكم بعض المقاطع التي تُظهر تدخّل المؤلّف:
“هنا يبدو أنّ الرجل النائم على الكرسي الهزّار يشخر، يهزّ الكرسي، نسمع بوضوح صوت القطار…”: مؤثّر صوتي.
“هنا يتوقّف الكاتب للحظات، يظلّ في مكانه صامتًا، نرى إضاءة في العمق، مكان السرير حيث تنهض الفتاة النائمة، تشعل ضوءًا فاتحًا، تكون بفستان نوم قصير جدًّا وشفّاف”: تركيز على الإضاءة، التي تقوم مقام الديكور، إذ يجب أن يكون الضوء مناسبًا لإحساس الأشخاص، وللجوّ النفسي المحرّك للمسرحيّة.
ويردف قائلاً (ص 10): “خلال حديثه يحاول شدّ الانتباه إليه، يكون حديثه دون تكلّف.. ثمّ يتوقّف، يصمت، يرفع الأوراق، يقلّبها، ثمّ يلقي لنا قصيدته…”إنّ توالي الأفعال المضارع يجعل المشهد ينبض بالحياة. وكأنّي بالكاتب، يحاول أن يؤهّل الشخصيّات على الإيحاء بنفسيّاتها، يمارس التجريب للإيهام بالواقع؛ بيد أنّ الصعوبة تكمن في كيفيّة الانتقال من صيغة النّصّ المكتوب إلى صيغة السرد البصري الخيالي، وفي القدرة على نقل المتلقّي إلى مجال الخيال الذي يتأسّس على واقعيّة تقترح شخوصًا وأمكنة وحياة ملموسة في قاعة العرض.
من هنا أهميّة ” العين”:
يحاول المؤلّف أن يؤسّس لكتابة مسرحيّةٍ بالبصر، مع اختلاف زوايا الرؤيا، فيلجأ إلى العين التي تصوّر الأفكار المتواجدة في الذهن، وتحرّك المشاهد بما يتناسب مع مستوى النظر من اليسار إلى اليمين، ثمّ إلى العمق، ثمّ الانتقال إلى طاولة الكتابة حيث ينفتح المشهد على أفق جديد، إذ في عمليّة الكتابة التي يمارسها البطل “الكاتب”، تتّضح شخصيّات يراها هو، ولا يراها سواه.
لقد عمد حميد عقبي إلى استنباط متواليات حركيّة، وهذا بالضبط ما يجعل المتوالية تساهم في تشكيل المعنى الدلالي العام للنّصّ المسرحي، وهي تتّصل بباقي المؤثّرات المكوّنة للمشاهد. فمسرحيّة حميد عقبي تنفتح على الخارج اللغوي كالإيماءات والإيقاع الصوتي والتلاعب بالضوء، ما يمنح المشهد المسرحي شموليّة أكبر من التعبير. فيبدو لنا أنّ السّرد في المسرحيّة يعتمد في لعبة تتابعه على تقاطع المتواليات المستمرّ بينه وبين الوصف والحوار، حتّى أنّ القارئ لكلّ مشهد يخال “الواقعي” كـ “المتخيّل” فينجذب نحو الأحداث من جهة، ونحو الديكور الإيحائي من جهة أخرى.
فالمؤلّف في مسرحيّته اعتمد على زوايا تمركزت فيها عينه الواصفة لتقدّم نوعًا من المشاهد، ولعلّ ذلك ما يتيح لنا أن نقول بأنّ زوايا النظر تلك موظّفة من أجل تحقيق عدّة وظائف منها:
الحركة:
قدّم المؤلّف تفاصيل المشهد بين “الكاتب” و “العشيقة” كما لو كانت عين مراقِبة بين بين… تقوم بحركة… تمامًا كمثل تقديم مشاهد تصوّر لقطات بين – بين.
تقول الفتاة العاشقة معاتبة:
“الكتابة دائمًا تأخذك منّي، تعال لنمارس الحبّ مرّة أخرى أنا مشتاقة إليك”.
يتدخّل المؤلّف ليرسم المشهد، فيقول: “ثمّ تنزع نفسها برفق، تنتبه إلى الأوراق، تأخذها، تتصفّحها باهتمام”.
يقول الكاتب:
“حبيبتي أنا كذلك مشتاق إليك…
لكن صديقي الغريب هنا، إنّه نائم هو وكلبه هناك”.
المؤلّف يرسم الإطار: “تنظر الفتاة حيث يشير بيده، تبدو مستغربة، تسير حيث الرجل والكلب، تلتفت، تعود حيث يقف صديقها الكاتب، تعانقه بحنان، تظلّ ملتصقة به…”
الفتاة:
“حبيبي لا يوجد أحد غير أنا وأنتَ، أنت تتخيّل…”
وكأنّي بالمخرج يحرّك بصره، ليكتشف الفضاء، فيرسم لنا الزوايا التي رصدت الهدف، وحدّدت المساحة والاتجاه، ما يشير إلى أنّ أحجام اللقطات تتماشى مع الحالة النفسيّة للشخصيّة من جهة، والبناء الخارجي من جهة أخرى، ما يساهم في خلق التتابع في عمليّة البناء.
اختزال النّصّ:
لقد ربط المؤلّف متوالياته السرديّة بين المشاهد على اختلاف أحداثها أو الأمكنة أو الأزمنة فيها مراعيًا في ذلك تسلسلها الحدثي إذ ربطَه ببعضه البعض من أجل خلق مسار سردي متكامل. فالكاتب المنهمك بالتأليف من جهة، وبعشيقته من جهة أخرى، لا يتوانى عن رسم شخصيّات يتخيّلها حاضرة معه، تشاركه تفاصيل حياته. يهذي تارةً ويعود إلى واقعه طورًا، فنشعر كأنّنا أمام نصّ متوازي، والمقصود بذلك وجود حدثين مختلفين في المكان تربط بينهما شعرة غير مرئيّة تساهم في البناء العام للسيناريو، وتضيف عمقًا ودلالة خاصّة للعمل.
فالكاتب المشغول بصياغة نصوصه وبالاستماع إلى أصواته الداخليّة، يباغته صوت خارجي، وهو صوت بكاء طفل. فتسود العتمة المسرح، ويُشعل شمعة ويظلّ مصرًّا على إشعالها إلى أن يختفي صوت البكاء ويلتقي بحبيبته.
فكما يقوم المونتاج بالتوليف في عمليّة الربط بين لقطة سينمائيّة وأخرى وتتولّد عن ذلك فكرة معيّنة، يسعى المخرج إلى إيصالها.. عمد حميد عقبي إلى ذلك التوليف بين المشاهد بغاية توليد فكرة متناسقة مع ما سبقها ومتّسقة مع ما بعدها. حتّى أنّ العتمة والضوء، يمثّلان الفراغ والمساحة، ويشكّلان عنصرين أساسيّين في البناء الجمالي لتكوين المشهد.
فنلاحظ بأنّ المؤلّف استطاع أن يمسك خيوط اللّعبة، وينقلنا من لقطة واسعة “حيث يمرّ القسّ والسحاقيّة” إلى لقطة مقرّبة (الرجل النائم على كرسي).
هكذا يبرز المشهد المسرحي متقنًا بفنيّة عالية من خلال عين مخرج يجيد فنّ بناء اللّقطات وتوليفها. فلكلّ كاتب عين يبصر بها ويتجوّل بالعالم السردي ملتقطًا مشاهده.. ولكن مع التحريف الناتج عن التخييل. فيهيمن في النّصّ المسرحي جهدًا مضافًا يتمثّل في أنّ الكاتب يصوغ الأحداث بتقنيّات يؤلّفها مجتمعةً حتّى نخال النّصّ المسرحيّ صورة… أوليس المؤلّف مصوّرًا؟ وقد ذهب إلى ذلك ابن رشيق حين يقول: “أبلغ الوصف ما قلب السّمع بصرًا”.
هكذا يلجأ حميد عقبي في منجزه الإبداعيّ “لا شيء يحدث هنا” إلى استحداث تقنيّات منفتحة على المعطيات البصريّة، وقائمة على الانفتاح على أنواع أدبيّة أخرى كالرّقص والموسيقى، كما ورد ص (14) حين تحدّث عن جان كوكتو، مؤلّف “باليه باراد”.
نلاحظ بأنّ الإضاءة أدّت دورًا بارزًا في مسار الأحداث، وكأنّها المحرّك الأساسيّ للمشهد، ما يوحي بالانسجام بين مقاطع المسرحيّة. فالكاتب، الصوت الأساسيّ في النّصّ المسرحيّ لا يتوانى عن خلق شخصيّات تختفي وتظهر بما ينسجم مع صوت مرور القطار وبكاء طفل من جهة، ومع ضوء لا يكشف المكان وحسب بل تفاصيل مختلفة… ويفاجأ القارئ بظهور المرآة وانعكاس الضوء عليها، فتوحي تارةً بالكآبة، لما تعانيه الشخصيّة من ضعوطات خارجيّة، وبالفرح طورًا إذ تمثّل الانطلاق إلى آفاق جديدة. فالمرآة قد تكون العبور إلى عالم متخيّل، وهنا نتساءل إن كانت ترمز إلى الحقيقة التي بحث عنها Diogène في وضح النهار.
بيد أنّ المتلقّي يجد نظره محجوبًا بسبب الظلام الدامس، ما يحيلنا إلى نهاية متوتّرة؛ مع أنّ المؤلّف حاول ردّ النهاية على البداية من دون تراخ، محاولاً أن يجعل من البداية إيحاءً وصفيًّا ينبئ بنهاية مدهشة. هكذا تمكّن حميد عقبي من خلق العديد من المفارقات لإحداث الدهشة ومضاعفة التوتّر لدى قارئ مسرحيّة “لا شيء يحدث هنا”.
العنوان الذي يعلن عن عبثيّة الحياة لأنّنا نعيش في دوّامة فراغ من الروتين، نعيش في مجتمعات لا يحدث فيها شيء، على الصعيد العاطفي. ما يحجب الاستمتاع باللحظة الراهنة، فتحلّ على المسرح معقوليّة التجربة بمختلف تفاصيلها. ولهذه الخطوة مزاياها وقيودُها معًا. ما يذكّرنا بمسرحيّات هارولد بنتر
(Harold Pinter)، التي تدور أحداثها داخل غرفة، لا يشعر من يعيش فيها براحةٍ ولا باستقرار. كذلك الأمر في مسرحيّات يوجين يونسكو (Eugène Ionesco)، حيث تعيش الشخصيّات في حالة من القلق الدائم، فيغيب عندها التفريق بين الوهم والحقيقة، وتعاني حالة قلق متواصل وخوف متجدّد من ماهيّة المستقبل.
فبين عبثيّة باكيت، الذي يخلو عالمه من المعنى بسبب غياب غودو، وعبثيّة كافكا، يظهر حميد عقبي بعمل يدعونا إلى التساؤل: هل يسعنا أن نختار أن نكون أيّ شيء آخر؟