صخرة الروشة
كنت صباح اليوم، أودع إبنتي البكر، في دارتي، على تقاطع المقدسي- غاندي، ببيروت. إنتابتني موجة من الحزن واليأس، جعلتني بثوان، كمن يقف على صخرة الروشة، ليرمي بنفسه، من أعلاها، في البحر.
أحسست حقا بالإنتحار. تلبستني بكل أسف، هذة الحالة من الإنتحار. لكنني، تملكت نفسي، وإمتصصت حزني وغضبي. ولم أجعل أحدا يدري، بما يعتريني أو يتلبسني.
ما كنت وحدي أشعر بذلك. كانت أمها، لا تجرؤ على الإنفجار، أمام طفلين يحتبسان الدموع، ويموهان عن الإنهمار، بالضحك الشديد.
كنت أشعر أن لهوهما العابث والطفل والمجنون، إنما هو لإستهتارهما بمطر القلوب وبإنسكاب السماء في العيون.
كذا زوجها الذي وقف إلى جانبها، وهي تنتعل للرحيل. خنقته العبرات التي إحتبسها في داخله، حين أخذ القرار، بضرورة الهجرة من لبنان، إلى حيث العمل والأمان، أينما كان. ولو في الصين، على قول القدماء.
كنا معا: عائلة بأمها وأبيها، تقف على صخرة الروشة، حين كانت د. سوسن ، الأستاذة المتفرغة في الجامعة اللبنانية، تنتعل سفرها، لأجل عائلتها الصغيرة.
تذكرت وأنا عروس، منذ نصف قرن، كيف جمع عمي والد زوجي، أبناءه، وقذفهم بالبحر.
باع جميع مايملك ، من محال ، ثمن بطاقات سفر وإنتحار.
تتجدد الحرب، بعد نصف قرن ، لأن الطريق الأقصر إلى (….) ، تمر بلبنان. وليس لأي “أمر آخر”
يتجدد الإنتحار، جيلا بعد جيل.
ترانا اليوم مثل آبائنا منذ نصف قرن، نجمع عوائلنا، ونقف على صخرة الروشة، ونهوي معهم في البحر.
قوارب الموت وطائرات الموت واحدة. مثل صخرة الروشة، و”مقتلة” هجر لبنان واحدة.
ناقشت سوسن ونجيب: لماذا تأخذوننا مجددا، إلى صخرة الروشة، بعد خمسين عاما. أتاني الرد: لماذا عادوا إلى الحرب.
الحرب، توطن المقاتلين، في ساحاتها. أما المدنيون، فتفتح لهم أبواب الهجرة، وتدفعهم للرحيل.
قلت: الرحيل إنتحار جماعي، ذقته، وأنا عروس. فما بالكما به علي، وأنا عجوز.
قدر اللبنانيين، إما تنكب السلاح، أو تنكب الحقيبة، والغياب في البحار.
نحن لا نذهب، إلى العباب، حين ننتعل السفر. فقط: نذهب في رحلة قصيرة، من آخر شارع الحمرا، لنقف على صخرة الروشة، فيقفز إلينا البحر. يجن جنونه فرحا بنا. يغمرنا بدموعه. ويودعنا بطن موجة، مثل يوسف: “يودعنا”…
ذهبت إلى صخرة الروشة هذا الصباح الباكر، أودع إبنتي البكر. وجدت خلفي: طوابير المسافرين والمغادرين. تعجبت.
سألت عنهم، قالوا: تركنا طوابير البنزين. تركنا طوابير المازوت. تركنا طوابير الصيدليات والمستشفيات، والأفران والمولات. أحسسنا بطعم الموت الذليل على إسفلت المدينة، فقلنا: لماذا لا نلتحق بصخرة الروشة، ونرحل كما أجدادنا مثل خمسين عاما: نبترد من النار، نغتسل، نغيب في البحر.
صخرة الروشة هذا الصباح، يقف عليها لبنان المدني، هربا من لبنان ( …) . خطان أحمران رأتهما عيناي، قربي على علم لبنان، في أعلى الصخرة، على سارية من عمر أجدادي. وبينهما الأرزة الخضراء، نسجت في الصفحة البيضاء من قلوب الأباء والأمهات الدامعة.
جيل جديد يتجدد في لبنان، هذة الأيام، على صخرة الروشة. هو وجه لبنان المدني. هو الهارب من جحيم النار: تزحف عليه من جميع الجهات.
لبنان هذا الصباح، يتسلق صخرة الروشة، حتى تمتلئ به. ثم تغمس أنفها في البحر تغتسل.
فيسافرون.