دورية الليل
أبدع حقا الرسام الهولندي “(رامبرانت 1606- 1667)، في لوحته(1662) التي خلدته، وهي تنقل من وسط العمل إلى الطرف الشخصيتين الرئيسين: قائد الميليشيا البرجوازية في أمستردام، “فرانس بانينغ كوك”، ومساعده العسكري “فيليم فان رويتنبرخ”، وهما يتجولان في وسط مدينة أمستردام، لحمايتها في الليل، ممن يريد العبث بأمنها، ويمنحها فرصةالإستقرار والهدوء ، في وسط الأزمات، التي كانت البلاد تضج بها.
ويقول مدير المتحف في بلدية أمستردام: ريكيميوزيم تاكو ديبيتس، لوكالة الصحافة الفرنسية: ” هذا العمل يثير حماسة كبيرة حقا. لأنكم تعرفونه منذ الطفولة. تشعرون كما لو أن الزمن عاد بكم فجأة ثلاثة قرون إلى الوراء”. ويتابع ديبتس قائلا: “الأهم هو أن رامبرنت يواصل إدهاشنا ويستمر في صنع أمور لا نتوقعها”.
عكس الرسام الهولندي، هاجس الأمن المفقود في أمستردام، وفي بلاد هولندا كلها، في منتصف القرن السابع عشر.
كانت البلاد غارقة في أزماتها. وكانت الإعتداءات تتوالى على الناس، في الليل. كان ليل أمستردام، هو الغطاء الذي يستغله اللصوص، لأجل النهب والسرقة، في بلاد كانت تختنق بأزماتها.
إنبرى قائد البرجوازية مستعينا بمساعده العسكري، لتثبيت الأمن في البلد، وفرض هيبة الدولة. وحماية الناس وحماية ممتلكاتهم، من اللصوص والسراق وحرامية الليل، وذلك حين كان يسير ما أسماه: “دورية الليل”، في طول البلاد وعرضها. فجسد الرسام الهولندي رامبرنت ذلك في لوحة أسماها: دورية الليل.
عكس الفنانون القدماء هاجس الأمن في الليالي المظلمة، في بغداد والقاهرة ودمشق. وكان أشهر هؤلاء، الواسطي، الذي أبدع منمنمته الجدارية المستوحاة من دوريات الليل في بغداد، حين كان يختل حبل الأمن في البلاد، خصوصا في شهر رمضان. فكان يصور الحملة الليلية الرمضانية: القائد العسكري، محفوفا بالجند، وهو يتفقد الأسواق في بغداد ليلا، وبصحبته الموسيقيون والمنشدون وفرق الصوفية، التي تدخل البهجة إلى نفوس الناس، بدل الغرق في المخاوف والهواجس، جراء إضطراب حبل السوق، لفقدان الحاجات المعيشية، وفقدان الأمن المصاحب لها.
لبنان اليوم، ومنذ أكثر من سنتين خلتا، تتوالى فيه الأزمات، حتى لتكاد أن يختنق بها. نهاراته أشد حلكة من لياليه.
فهو عاجز عن فرض هيبة الدولة، بسبب تعدد المرجعيات. وهو عاجز عن تشكيل حكومة، يمكن لها أن تفرض الأمن.
منذ سنتين وأكثر، ولبنان تنحدر فيه الأسواق والأوضاع من سيء إلى أسوأ.
كل شيء ينهار في البلاد: السياسة والإقتصاد، والإجتماع، والعملة الوطنية والرواتب في القطاعين الخاص والعام.
الإدارات أخذت طريقها للإنهيار أيضا. وكذلك المصالح المستقلة والقطاعات الإنتاجية. وكل ماله علاقة بالخدمات في البلاد.
ويشهد اليوم لبنان، أقسى أزماته، في قطاعات الكهرباء والماء والدواء والمحروقات والمستشفيات. وكذلك في قطاعات الخدمات الصحية، بسبب ما يضر بالمستشفيات، وما يلحق الأذى بالمستوصفات. ناهيك عن إضطراب الأسواق المالية، وفقدان السلع الغذائية. وهذا ما إنعكس إضطرابا على حياة الناس، في كل البلاد، وخصوصا في العاصمة بيروت، وفي سائر المدن والقرى، في جميع المحافظات.
وكانت نذر الثورة قد بدأت في السابع عشر من تشرين الأول العام2019. فنزل المحتجون والثوار إلى الشوارع، تعبيرا عن غضبهم العارم مما تشهده البلاد من عجز على مستوى الإصلاح وعلى مستوى الإنتاج، وعلى مستوى تحقيق الأمن في البلاد.
وصاحب ذلك، عجز السلطات عن تقديم الحلول، وغرقها في جميع الوان الفساد.
تمثل عجز السلطات الصارخ، في عدم قدرتها على تشكيل الحكومة، والتلهي عن ذلك بالتشاطر على بعضها، في المحاصصة، والإشتراط المسبق، لنيل الحصص الوازنة لها. وأخذ العهود المسبقة، لحصصها في الإستحقاقات المقبلة، حتى ولو كانت متأخرة لسنوات.
بدت السلطات الرسمية في لبنان، أنها متهمة بالفساد. وأنها عاجزة عن الإصلاح والإنتاج وفرض أجنداتها الأمنية، في طول البلاد وعرضها.
وفي ظل هذا التسيب العام، بدأ اللصوص يخرجون في الليل وفي النهار، لسرقة ما يقع لهم، في المصالح والإدارات. وصاروا يستسهلون التعديات على الناس في بيوتهم ومصالحهم ومتاجرهم.
وها هي أصوات اللبنانيين تتعالى، لفرض سلطة الدولة في كل مكان. ولتحقيق الأمن والأمان. ولحفظ الملكيات الخاصة والعامة، وعدم الإضرار بها، وقد إشتد الجوع والتسيب على الناس. فصاروا يعيشون هاجس:( كل مين إيدو ألو)، أينما كان.
في ظل هذة الأوضاع الخارجة على القانون، والتي تضر بحالة البلاد، والتي تشبه إلى حد بعيد ما عاشته العواصم العربية والغربية في القرون الوسطى، من الإنهيارات الإقتصادية والأمنية، لا بد أن تخرج القيادات العسكرية، بفرض “الدورية الليلة” في البلاد، بإنتظار تحسن الظروف الداخلية والخارجية التي يناط بها توفير الحلول الدستورية والقانونية، لتسيير الشؤون على كافة الصعد، في البلاد.
تتعالى الأصوات الهامسة بين المواطنين شيئا فشيئا، تتطالب الجهات الأمنية غير المدنية، بأخذ زمام المبادرة، والإقدام على خطوة جريئة، لتوفير “دورية الليل”، التي جسدها الفنانون والرسامون والتشكيليون القدماء، في عصور الظلام.
فأين للبنان من قائد مسؤول، غير مدني، ينزل إلى الشارع، ويغيث الناس ويحفظهم، ويلبي صوتهم، في المطالبة ب “دورية الليل”، ريثما يزاح، وينجلي ليلهم، بإصباح.
وقديما قال الشاعر متألما من وطأة الليل الطويل:
وليل كموج البحر أرخى سدوله/ علي بأنواع الهموم ليبتلي.
فقلت له: لما تمطى بصلبه/ وأردف أعجازا وناء بكلكل.
ألا أيها الليل الطويل ألا إنجل/ بصبح وما الإصباح فيك بأمثل.