خاص ـ ميزان الزمان :
في اطار التعاون الثنائي بين مختبر السرديات الكويتي والمنتدى العربي الأوربي للسينما والمسرح بفرنسا، اقيمت أمسية قصصية جمعت ثلاثة من كُتاب القصة القصيرة بالكويت فيصل الحبيني، جميلة سيد علي ومنى الشمري مع ثلاثة نقاد د. مصطفى الضبع، د. عاطف الدرابسة ود. درية فرحات بحضور مختبر السرديات الكويتي الروائية هديل الحساوي والناقد فهد الهندال، وحضور عدد من النقاد منهم الأديب صبري يوسف ود. دورين نصر حيث اديرت الندوة من المخرج السينمائي حميد عقبي ـ رئيس المنتدى العربي الأوربي للسينما والمسرح.
موقع” ميزان الزمان ” الأدبي في بيروت ينشر النص الكامل لمداخلة رئيسة ملتقى الأدب الوجيز في لبنان الدكتورة درية فرحات خلال الأمسية القصصية التي اقيمت بالتعاون بين مختبر السرديات الكويتي والمنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح في فرنسا ..وهنا النص الكامل للمداخلة :
المرأة بين الواقع والخيال في قصص منى الشّمري
أ.د درية فرحات
أستاذة في الجامعة اللبنانيّة
القصة اصطلاحًا : تتبّع تفاصيل حدث أو أحداث… أو رواية / سرد حدث أو أحداث . إذًا القصة هي مجموعة من الأحداث يرويها الكاتب / القاص وهي تتناول حادثة أو حوادث عدّة ، تتعلّق بشخصيات إنسانيّة مختلفة، تتباين أساليب عيشها وتصرّفها في الحياة، على غرار ما تتباين حياة النّاس على وجه الأرض. ويكون نصيبها في القصة متفاوتًا من حيث التّأثّر والتّأثير
والحديث عن القصّ يقودنا إلى تتبّع أنواع هذا القص الذي تنوّع بين الرّواية والقصة القصيرة والحكاية والأقصوصة وصولًا إلى ما ظهر في العصر الحالي ومنذ مدّة قريبة وهو ما تعدّدت الأسماء التي أُطلقت عليه، واشهرها القصة القصيرة جدًا، وفي ذلك حديث آخر بحسب ما يرى ملتقى الأدب الوجيز في لبنان حيث يُطلق عليها القصة الوجيزة.
وانطلاقًا من هذا التّنوّع بين أنواع القصّ، فإنّ الاختلاف وقع أيضًا في الخصائص لكلّ نوع، وفي التّعريف، ولن ندخل في دهاليز ذلك الآن، انطلاقًا من أنّ هذه الجلسة هي لمناقشة المجموعات القصصيّة، ومن هنا فيمكننا القول فإنّ الاختلاف بين الرّواية والقصة القصيرة هو اختلاف في النّوع في إطار الجنس الواحد، ويذكر الناقد والقاص الأيرلندي فرانك أكونور أنّ القصّة القصيرة هي فنّ اللحظة المهمّة، كما يحلو لكثير من النّقاد أن يروا أنّ كاتب القصّة القصيرة يعطينا قطعة أساسيّة من الفسيفساء فقط لكنّنا يمكن من خلالها أن نرى الزّخرف كاملًا، هو تعبير يقدّم في أبعاده الدّلاليّة المعاني الكثيرة، وانطلاقًا من ذلك نريد أن ننطلق في القطع الفسيفسائيّة التي قدّمتها لنا القاصّة والرّوائية منى الشّمري، في مجموعتها الموسومة بـ “رأسان تحت مظلّة واحدة”، الصّادرة عن دار نوفابلس 14 العام 2018.
وسندخل فسيفساء منى الشّمري انطلاقًا من العتبات النّصيّة التي اهتمّت بها الدّراسات السّيميائية فكانت دراسة مجموع “النّصوص التي تحيط بمتن الكتاب من جميع جوانبه: حواش وهوامش وعناوين رئيسة وأخرى فرعيّة وفهارس ومقدمات وخاتمة وغيرها من بيانات النّشر المعروفة التي تشكّل في الوقت ذاته نظامًا إشاريًّا ومعرفيًّا لا يقلّ أهمية عن المتن الذي يحيط به، بل إنّه يؤدّي دورًا مهمًّا في نوعية القراءة وتوجيهها والعنوان من أهم النّصوص الموازية للنّص إذ أنّه أوّل ما يصافح بصر وسمع المتلقي، وهو المفتاح الذي ستُفتح به مغاليق النّص، العنوان مفتاح أساسي يتسلّح به المحلّل للولوج إلى أغوار النّص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها.
ودراسة عنوان المجموعة “رأسان تحت مظلّة واحدة”، دراسة صرفية نحوية، تشير إلى أنّه يتكوّن من جملة اسمية تبدأ بالمبتدأ “رأسان” وهو يدلّ على المثنى، والجار والمجرور متعلّق هنا بالخبر المحذوف تقديره موجود، ولكن العنوان لا يُشير إلى أي رأسين تقصد الكاتبة، وما هي المظلّة التي يحتمي بها هذان الرّأسان، ولعلّه من هنا يتحقّق وظائف العنوان التي أشار إليها جيرار جينت، ومن وظائف العنوان الوظيفة التعيينيّة/التسمويّة، والوظيفة الإغرائيّة، والوظيفة الوصفيّة والوظيفة الدّلاليّة الضمنيّة، وقد تتحقّق هذه الوظائف كلّها في عنوان واحد، بحيث يصف المحتوى، ويوحي بأشياء أخرى، ويغري المتلقين بالقراءة، وأكثر من ذلك فهو اسم محدّد للكتاب يميّزه عن غيره.
ومن خلال عنوان المجموعة نستطيع القول إنّه حقّق الوظيفة الإغرائيّة التي تحثّ المتلقي كي يخوض غمار النّصّ، وتترك لديه فضاء من التّساؤلات حول ماذا تقول هذه المجموعة، ويمكن أن تترك له بياضات يتوقّف للتّفكير وتعبئتها بما يناسب الفراغ التّأويليّ. وهذا ما يحدث معنا عندما نقرأ العنوان “رأسان تحت مظلّة واحدة”، فهو علامة سيميائيّة تشدّ المتلقي، فتحثّه على القراءة ليكتشف مدلولات العلاقة هُويّة الرأسين، والمظلّة.
والسّؤال الذي يطرح نفسه، من تقصد منى الشّمري بالرّأسين، ولماذا يريدان أن يحتميا بالمظلّة؟ هذا يقودنا إلى البحث بالعناوين الدّاخليّة للمجموعة القصصيّة، وهي أيضًا من العتبات النّصيّة، وعنوان المجموعة هو قصة من قصص هذه المجموعة، أمّا عناوين هذه القصص فهي:
الرّجل الوطواط/ كبش فداء/ المخرج/ مفقودة/ ضيف ثقيل/ نحو التّخوم البعيدة/ المشهور/ الورقة التي خارت/ زفاف ينزف/ طيور البياض/ سيّدة الصّورة/ فلفل/ الجريدة.
ودراسة العنوان تقودنا إلى دراسة علاماته السّيمائيّة من عدّة نواحٍ، ودراسة بنيته التي تعتمد على بنية العنوان اللغويّة، فالعنوان علامة، إشارة تواصليّة له وجود ماديّ يتمثل في صياغته ونحته من مفردات لغة الكاتب أو لغة الكتاب. أمّا البنية الثانيّة فهي البنية الصّرفيّة والنّحويّة للعنوان، والبنية الثالثة هي البنيّة الدّلاليّة أي الشّكل العام لتنظيم مختلف العوالم الدّلاليّة -الحقيقية أو الممكنة -ذات الطّبيعة الاجتماعيّة والفرديّة (ثقافات أو أشخاص).
ومن الملاحظ أنّ الكاتبة نوّعت في استخدام البنى الصّرفيّة والنحويّة لعناوين مجموعتها، فاستخدمت الكلمة المفردة في خمسة عناوين، والمضاف والمضاف إليه والنعت والمنعوت في ثلاثة عناوين لكلّ منهما، والجملة الاسمية في عنوانين، مع عنوان ثالث ذكرت فيه المبتدأ ولم تخبر عنه، وعليه يمكننا تقسيمها إلى عناوين مركبة تركيبًا ثلاثيًّا وثنائيًّا وعناوين مفردة.
ولن نغوص أكثر في استكناه الدّلالة البنية الصّرفيّة والنّحوية للعناوين، وسنستند إلى البنية الدّلالية للعناوين، التي يمكن من خلالها العودة إلى اكتشاف هُوية الرأسين التي عنتهما الكاتبة، إنّ استدلال العناوين، يُشير إلى طرفين مهمين من أطراف الحياة، ألا وهما أدم وحواء، فكانت الدّلالة المباشرة في القصة الأولى (رجل الوطواط) لتقدّم إشارة إلى الرّجل، وفي قصّة سيدة القصر إشارة إلى المرأة، أمّا في قصّة (زفاف ينزف) ففيه إشارة إلى الزّواج بين هذين الطّرفين، وعليه فإنّ ذلك يقودنا إلى اكتشاف الموضوع الذي تتحدّث عنه المجموعة فنرى أنّه يرتبط بالمرأة وقضاياها وعلاقتها بالرّجل، أي أنّ الكاتبة هنا تنطلق من قضية مهمة ترتبط بالجنوسة، واللافت أنّ البحث في صورة الغلاف كعتبة نصيّة تقودنا إلى اكتشاف هذا الموضوع، فنرى في الغلاف الأماميّ رجل وامرأة تحت مظلّة، وأيضًا في الغلاف الخلفي، نلمح ظلالًا لكلّ من الرّجل والمرأة تحت مظلّة، فالصّورة من العتبات النّصيّة التي اعتمدتها القاصّة، فأكملت الإيحاء الذي أعطاه العنوان، لكنّها حافظت على غموض تحديد طبيعة العلاقة بين هذه الطّرفين، ما يزيد من التّشويق الذي يحفّزنا إلى الغوص في مضامين القصص، باحثين عن القضية التي تتبناها منى الشّمري.
الاشارات الدلالية في الاهداء:
ومن العتبات النّصيّة أيضًا ما يرد في الإهداء، وتقدّم القاصّة منى الشّمريّ في إهدائها إشارات دلاليّة تحيل إلى ما سيقرأه المتلقي في متن الرّواية، فتهدي روايتها “إلى صديقة الرّوح دلال العرادة امتنانًا لكفّك التي ظلّت تسند قلبي آن يهوي”. وإذا حمل الإهداء بعدًا وجدانيًّا لطبيعة العلاقة بين صديقين، فيمكن أن نقرأ بين السّطور إشارات إلى معاناة المرأة التي تحتاج لمن يساعدها في لحظات انهيار القلب أو وقوعه في مهاوي المصاعب التي يمكن أن تمرّ بها المرأة، فلا تجد إلّا امرأة تفهم ما تعانيه، أو لعلّه هجوم مضمر على الجنس الآخر الشّريك في هذه الحياة.
وإذا قادتنا العتبات النصيّة إلى تقديم دلالات على مضمون المجموعة القصصيّة، فإنّ ذلك يحفّز التشويق لدينا لمعرفة كيف عالجت الكاتبة في مجموعتها ما يتعلّق بموضوع المرأة وأحلامها وطموحها، وهل كانت قادرة على الإفصاح عن مكنوناتها ومشاعرها. فنراها في القصّة الأولى “رجل الوطواط” ترسم علاقة امرأة تعيش يومياتها الدّائمة، تقسم حياتها بين العناية بطفلها المغرم بالباتمان، وتحقيق رغبات الزّوج الغرائزيّة في شهوة الجسد والطّعام، وهي وسط ذلك تخبئ أحلامها، فتحكي لابنها حكاية فتقول: “هكذا الحلم بالأشياء أجمل من لقائها، وانتظارها في الأحلام أروع من مشاهدتها في الواقع، سأحدثك عن فتاة صغيرة ويتيمة مثل نجمة مضيئة، لها أهداب طويلة ونظرات غائمة تزوّجت لتعيش يتيمة وغريبة وبعيدة للأبد، بعيدة حتى أن أحدًا لا يرى نورها”. وهكذا يبرز صراع المرأة بين احتياجاتها وما هو مفروض عليها من تأمين متطلبّات البيت، ونلحظ أنّ الكاتبة في هذه القصة اهتمت بتفاصيل حول الأطعمة، فأكثرت من تعداد الأنواع، وشرحت أيضًا خطوات إعداد الطّعام، ما يُشير إلى أنّ هذه هي الصّورة النّمطيّة المطلوبة من المرأة، واللافت أنّ الرّجل لا يهتمّ إلّا بنوع معين من الأغذية يحقّق له مزيد من النّشاط الجنسيّ، إضافة إلى اهتمامه بالأعشاب حفاظًا على صحّته.
ولم يكن هذا الوصف الدّقيق إضافة زائدة لإطالة القصّة، إنّما استطعنا عبره أن نفهم عدم التّوافق بين الزوجين في ميولهما، وكون القصة تعتمد الرّاوي العليم، فهو لن يستطيع الدّخول في تبيان المشاعر الدّاخليّة لبطلة القصّة، فجاءت هذه التفاصيل مساعدة على ذلك. وهكذا تكون الخاتمة في القصّة متلائمة مع سير الأحداث، أو أنّها نتيجة طبيعيّة، فهي بعد أن تهدهد لابنها كي ينام تسدّ “الّلحاف الذي يتمدد فيه الباتمان بقناعه الأسود، تتركه وتكمل يومها بخطوات متهالكة في موسيقى الصمت، ترخي سمعها لعواء الذئبة المجروحة بداخلها خافتاً كأنين، وتكمل يومها كباقي الأيام”، نعم هي خاتمة طبيعيّة للقصّة لكنّها تشكّل صرخة تطلقها الكاتبة في وجه هذا المجتمع رافضة الصّورة النّمطيّة للمرأة.
كبش الفداء:
أمّا في قصّة “كبش فداء” فمن العنوان يتحقّق مصير البطلة في القصّة، هي أضحت كبش فداء لمجتمع ارتضى أن تقع المرأة فريسة ضغط الرّجل، وأيضًا فهي تقع فريسة بنت جنسها خصوصًا عندما تكون زوجة أب، ومهما تميّزت به زوجة الأب من محبّة لابنة زوجها كما عبّرت البطلة “لم تكن حنونة كأم ولا قاسية كزوجة أب، وكانت كل شيء في حياة بناتها الثلاث، في حين ظلّت مشاعري تائهة في المسافة بيني وبينها…”، فإنّ هذه (الخالة) ربما لن تخرج عن صورة زوجة الأبّ التي نشأنا عليها في قصّة سندريلا التي تحوّلت إلى مضحيّة من أجل أخوتها، وإذا استطاعت سندريلا أن تغنم بالأمير زوجًا لها، لأنّ السّاحرة الجميلة ساعدتها، فإنّ بطلة هذه القصّة وقعت فريسة واقع مؤلم، يمنعها من التّخطيط لحياتها “قمة البؤس أن تعيش حياة لم تخطط لها شيئًا، حياة خالية كورقة بيضاء لم ترسم فيها خطًّا، ولم تكتب كلمة، ولم تضع فيها فاصلة أو نقطة، بل تستلمها وقد خطط آخرون بها دروبك، ورسموا وجهتك، وصنعوا قرارك، لتجد نفسك أخيرًا واقفًا في محطتهم لا تشبه نفسك“.
مفقودة :
وفي قصّة “مفقودة” تصوير لعلاقات اجتماعيّة قد نرفضها في بادئ الأمر، ونتهمها ربما بالعهر، ليكون هذا العهر في العلاقة غير المشروعة بين رجل وامرأة أرحم من عهر أخلاقيّ مارسه الرّجال بحقّ المرأة، سواء أكانت المرأة الزّوجة أو المرأة العشيقة، فتكون خاتمة الأولى في مستشفى الأمراض العصبيّة واتّهامها بالجنون، وتكون خاتمة الثانيّة رميها وهي حيّة في قعر البحر، ولم يكن ذلك إلّا للتغطيّة على فساد الرّجل الذي قبل بأن يعشق امرأة ويتزوج بأخرى، وعندما أرادات هذه العشيقة أن تدافع عن حبّها وحبيبها بفضح علاقتهما كان التّخلّص منها هو الحلّ، ويكتمل الكتمان بإسكات من أرادت أن تعلن عن هذه الجريمة. إنّ هذه المفارقة في المواقف ترسم حقيقة المجتمع الذّكوريّ المؤلم، وفي الوقت عينه ترسم لنا تمرّد المرأة ورفضها للظلم الواقع عليها، وما بقاء سارة في المستشفى إلّا إصرار على هذا التّمرّد “حلّقتْ صرختُها كحمامة مذعورة في كل الرُّواقِ، رافضة الحُقَن التي تحرق وريدها، في كل مرة تنصبُ بلحمِها تغيب بعيدًا، تقترب خطوةً جديدةً من الموت، خدر ثقيل يسري في دمها، يكومُها كقبسة ترتجف، تهذي: “لن تقهرني يا قاهر الأمواج“. فقاهر الأمواج ما هو إلّا هذا الرّجل اذي يدّعي العفة.
ومواجهة المرأة لذكورية الرّجل لا تقتصر على الرّجل الزّوج إنّما قد يكون الأخ أيضًا، وهذا ما ترسمه منى الشّمريّ في قصّة “ضيف ثقيل”، فبطلة القصّة تواجه تطفّل أخيها ورغبته بالسّيطرة على أسرتها بعد موت زوجها، والمسكوت عنه في القصّة، وتتركه القاصّة للمتلقي كي يكتشفه ويدرك العبرة من القصة هو أنّه مهما نضجت المرأة ووصلت إلى عمر متقدّم وأصبح لديها أسرة وربما يكون لديها العمل المناسب، فلا بد أن تبقى تحت جناح الرّجل “استرجعَت الزمن، كيف نجحت أن تتخلّص من حضوره ككيس فحم يلطخ بيتها بسخام الفصول، عابثًا بكل التفاصّيل الشّخصيّة للأولاد بروح الوصي السمج بعد وفاة والدهم منذ عامين. توقف عن زيارتهم بعد أن أخبرت أمها بأنّه يوؤذيهم، حينها سكبت غضبها عليها كقدر يغلي، ودعت عليها أن يحرمها الله بر أولادها لأنّها قاطعة رحم، خسرت رضا أمها وأخيها وربحت راحة أولادها رغم حروقها السّطحية من شرار الكلام”. أنّه واقع فُرض على االمرأة أن تعيش توترًا بين رغبات عائلتها التي أنجبتها، وعائلتها التي كوّنتها وأرات أن تكون بصمتها في الحياة، لكنّ قدرها كامرأة أن تظلّ خاضعة.
الورقة التي طارت
وتقدّم منى الشّمريّ في قصة (الورقة التي طارت) أنموذجًا للمرأة التي تعيش حالة القلق النّفسيّ، فتشكّل القصة دراسة نفسيّة مظهرة إحساس المرأة الدّائم بالتّوتر، ومن خلال أوراق المفكرة لبطلة القصة تبرز المشاكل التي تعانيها المرأة في المجتمع، فمنها مشكلة الطّلاق، ومحاولة طليقها أخذ البيت، لمحات سريعة تحدّد معالم القلق النّفسي لهذه المرأة ” كيف أذكر وأنا أحاول تجاوز مطرقة التّشويش في رأسي! التّشويش الذي يشبه صوت تلفاز فقد إرساله، تظاهرت بعدم الاكتراث أمام طبيبة نفسيّة تقرأ قلقي بشكل سهل وسريع! لطالما أوصتني بحزم: أحبِّي نفسك أولاً، ثم العالم، أنت أولاً قبل كل شيء”. وتميّزت هذه القصّة بسرد سريع يصل بنا إلى خاتمة تكسب البطلة رضًى نفسي يجعلها تنسى هذه الورقة التي تشكّل مرحلة من مراحل عمرها، وكأنّها دعوة من الكاتبة إلى كلّ امرأة ان تنطلق من تجربتها المريرة إلى فهم للحياة، ولهذا كان العنوان الورقة التي طارت، فجاء الفعل الماضي هنا مشيرًا إلى أنّ ما مضى قد انقضى وعلينا البدء من جديد.
فلفل :
وفي قصة (فلفل) امرأة تعيش بين عالمين بين الواقع والخيال، واقع حوّلها من زوجة إلى ممرضة تداوي هذا الرجل الذي سبق له الزّواج، واكتفى بها حبيسة الدّار تداوي علّته، لكنّ تمردها يدفعها إلى البحث عن رغباتها بخيال تستمدّه من أفلام السينما المعروضة في سينما الفردوس. تحرص القاصّة في قصصها على الغور في النّفس الإنسانيّة، فبطلة هذه القصة تتماهى مع أبطال الأفلام وتتخيّل نفسها مكان البطلة، وفي ذلك هروب من الواقع إلى خيال حالم “وتتركه لرجل غريب مثلها في أقصى شقاء البشريّة لا يملك ترويس الأيام ولا اعتلاء شهوتها ،لا يمكنه التّمرد للذّود عن النفس كمقاتل شرس، مستسلمًا لسيرورة حزينة تجثم على قفصه الصدري ،لا يتعالى على واقعه، متناغمًا تماما مع زمن لا قيمة له، ليكتمل مع الحياة ول يتكامل مع الموت، تتجمع في صدره حشجات يشتهي البكاء ولا يقوى عليه، تعثر عليه في الرؤي الباذخة الرّوعة، سيعرف أن لا أحد في هذا الكون يفهم مايعتريه أكثر منها، تستسلم له تمامًا في انغمار ساحر، يعتليان قمة السّعادة، يلسعها كالفلفل، تلعق مطر الحب الذي يبلل شفتيها الجافتين حتى الصباح”. وما هذا التّوتر إلّا لمعاناة امرأة بالأربعين تُحرم من حقوقها وتقمع غرائزها، ولأنّ في هذه القصة ما يرسم الأبعاد الدّاخلية للمرأة اخذ مقطع الغلاف الخلفي منها، ليكون معبّرًا عن القضية التي حملتها الكاتبة وعاهدت النّفس على إبراز وجهيها وتأثيرها.
وإذا لمحنا في القصص السّابقة صورة المرأة الواضحة البارزة بكلّ قضاياها وأحلامها، مستندة القاصة إلى البعد النّفسي لإظهار ما تعانيه المرأة، فإنّها في القصص الأخرى تجمع بين قضيتها الجوهريّة أي المرأة وقضايا أخرى، فتكون قصّة (الجريدة) قصّة الظّلم الذي يقع على المرأة فتحرم من حبيبها، ويكون السّبب هو القيم السّائدة في المجتمع، وإلى التقسيم القبلي العشائري الذي يقف حجر عثرة في وجه الحبّ، وإذا كان المرأة قد وقعت ضحية اضطهاد المجتمع المتمثّل بالأب الذي يلتزم بالتّقاليد، ففي القصة إشارة أيضًا إلى هذا الضغط الذي عاناه الرّجل أيضًا من المجتمع فحرم حبّه، فيكون الضغط مضاعفًا على المرأة فهي تعاني الظّلمين ظلمها والظلم الواقع على الشريك. وكما وجدنا في قصص سابقة قدرة المرأة على تغيير واقعها إمّا باللجوء إلى الخيال، أو السيطرة على النّفسيّة، ففي هذه القصة تنجح البطلة في تغيير مجرى حياتها وعدم الوقوع فريسة رحيل الحبيب تحت وطأة التّقاليد، فتصل إلى أن تكون كاتبة ناجحة، وهو حلم تشاركت به مع الحبيب، لكنّه تحوّل ليكون تعبيرًا عن ذاتها وع ثقتها بنفسها.
نحو تخوم بعيدة :
والمرأة التي تحمل رايتها القاصّة، لا تمنعها من تصوير محاربة المرأة لبنت جنسها، كما نرى في قصّة نحو تخوم بعيدة، فكانت الخيانة من قبل المرأة للمرأة الأخرى من خلال خطف الزّوج. واللافت أيضًا صورة المرأة الأم في قصص منى الشّمري، لكنّها ليست صورة مثالية، إنّما هي صورة تتماهى مع قوانين المجتمع وقيمه، فتتحوّل إلى عنصر ضاغط على الابنة، لهذا تنشد المرأة الهروب من واقعها المرير. فكانت البطلة في قصّة ” زفاف ينزف تعيش تحت وطاة اضطهاد الأمّ لابنتها، فكان الزّواج هو الهروب. وهكذا تمثّل الأم في بعض الأحيان صورة مغايرة لما تعوّدنا عليه، ولعلّ هذا بسبب أنّ هذه الأمّ هي أيضًا ضحية مجتمع فرض عليها قيمه ومبادئه، فتحوّلت إلى عدوّ لفلذة كبدها.
وإذا كانت الطّفولة تلاحق بطلة القصة السّابقة، فإنّ بطلة “سيدّة الصّورة” تعيش واقع المظاهر والمباهاة والظّهور، فما هذا إلّا نتيجة طبيعية لنوعية التّربية التي تلقتها وجعلت منها تنشد المكان في الأمام دائمًا.
وفي قصّتي “رأسان تحت مظلّة” و”طيور البياض” تصوير للأمان الذي تنشده المرأة مع الرّجل، فيكون الرّجل هو الأمان والمنقذ، لكنّ المفارقة في قصّة ” طيور البياض هو هذه اليد الحالمة المساعدة ما هي إلّا من كانالسبب بالحادث.
وقد نرى أنّ قصّتي “المخرج” و المشهور بعيدتان نوعًا ما عن مسار القضية التي جعلتها الكاتبة طريق ها في هذه المجموعة القصّصيّة، فكانت رسمًا للهروب من الواقع إلى عالم خيالي حتى لو كان ضمن عدد من المجانين، لكنّها لم تخرج عن المسار الذي رأيناه سابقا. وفي قصّة (المشهور) إشارة إلى قضية الإرهاب، من دون الدّخول في متاهات هذا العمل، إنّما لتصوير الأزمة النّفسيّة عند الأسرة، وكيف أنّ الطّفل الصغير لم يرَ في صوورة اخيه على صفحات الجرائد سوى أنّه أصبح مششهورًأ.
المفارقات والدهشة :
إنّ هذه المجموعة القصصية تخطّ لنفسها طريقًا ميزًا في النّوع الأدبيّ القصّة القصيرة، وقد استطاعت الكاتب في كثير من قصصها أن تعتمد على حبكة الأحداث بما يتناسب مع القصة القصيرة، فكان مكثّفة موحية وفيها من المفارقة اللطيفة التي تجعل القارئ يعيش الدّهشة، ويخرج متن قراءته وقد امتلأت جعبته بكلّ أهداف القص، لكن قد تسقط بعض القصص من هذا الغربال كاشفة عن ما كان يعدّ قصصًا قصيرة، في بدايات نشأة القصّة القصيرة في الأدب العربيّ وهو أشبه بملخّص روايات، بمعنى أنّها يمكن أن تكون رواية كاملة الحوادث، وهذا يمكن أن نراه بشكل لافت في قصّة “كبش فداء” فكان زمن السرد فيها سنوات طويلة ما يتيح لها أن تكون رواية فهي مسيرة حياة.
وإذا أجادت الكاتبة في تصويرها واستخدام الانزياحات والصور المعبرة عن الفكرة بأسولب موحٍ، فإنّ الكاتبة قد وقعت في بعض الأحيان في أخطاء لغوية كان يمكن تلافيها.
وفي الختام كلّ التحية ليراع الكاتبة منى الشّمري ومبارك عملها.
ولكم الشكر
