بكاء الأشجار
موسم البكاء على الأطلال، قديم عندنا. وقوف الشجي، يمسح دموعه عن خديه، ويصغي إلى نشيج روحه، وهي تلهث، خلف الغياب.
أشجان كثيرة، تتملكنا، ونحن نعيد تذكارات الماضي، فوق الدوارس، فنمضي في الشهيق. نخرج من أعماقنا المكبوت الذي يعذبنا إفلاته من أيدينا، كبالون طار من يد طفل صغير.
بكاء الأطلال، يحيلنا إلى سيرورة تقمص الطبيعة، التي تختبئ فينا. التي لجأت إلينا وتعلقت بأثوابنا وبأهدابنا، حين إبتعدنا عنها. وصرنا نلوح لها من بعيد، بأكفنا. أو بالمرايا: يتبادلها المهاجرون مع أهلهم وأحبابهم، حين تقلع السفينة بهم في الإتجاه البعيد.
تبادل البكاء بين الطبيعة والإنسان، قديم في الزمان. همزة الوصل بينهما، هي الروح.
تبادل البكاء بينهما، هو تفاح التحيات، حين نقف في المكان، ونناديه ونستحلفه، أن يرد لنا الغياب. فيرد علينا المكان شاهقا: أهلا سهلا، متى كان الإياب؟.
بكاء الأطلال، بكاء الأشجار، سؤال بين الإياب وبين الغياب. لا أحد ينجو من حريق الشوق، حين تقف المرايا قبالة بعضها. تلوح بالشمس. تقرأ كفها. تقرأ الغائبين. تقرأ الآيبين. ويطول البكاء.
“سيل من الأشجار في صدري،
“أتيت أتيت.
يقول سيد الغياب والإياب، محمود درويش.
تقمص القدماء غاباتهم، ومشوا بها، خوفا.
وفي ظلها، كانوا يختلسون الكلام. كانوا يختلسون البكاء.
لطالما، نظرت إلى غابة السنديان، فوق قريتي، لأمشط شعرها. وأرسم له مفرقه. أسقي بصيلاته، و أسرح خصيلاته، وأمسح الدمعة عن خدها.
كنا كلما تقابلنا، تبادلنا البكاء معا.
غابة السنديان القوية، تنهر في البكاء، في داخلي مثل طفل صغير. وأنا أبكي على خدها مثل آهة من حريق.
وحدنا البكاء: بكاء الأشجار على الأطلال. والبكاء على الأطلال.
أينا الشجر. وأينا الطلل. وأينا البشر.
ويستحيل السؤال مسافة بين دمعتين: دمعة الشجر في قلبي. ودمعتي فوق سطر من شجر.
بكاء الأشجار عادة قلبية، حين تغادرنا للغياب الطويل.
كل يوم يطل علينا، ننهش منه غابة، ثم نذرف الدموع عليها. وحين نقف على أطلالها، ندخل في العتاب.
تعتب الأشجار علينا، لأننا لم نمنع الأذى عنها، حين تجز الفؤوس جذوعها، وتحيلها جمرا ورمادا على أرضها.
بكاء الأشجار، سمفونية الروح الحزينة لأيتامها. يقفون على أطلالها، بعدما أعمل المجرمون فؤوسهم بها، وأمعنوا في قطعها. ثم سارعوا لإحراقها جثة، في مأتم لبوذي حزين.
صار لبنان من صحارى العرب.كل يوم جنازة في غابة نودعها. كل يوم جنازة غابة، في القلب.
صارت جنائز الغابات في لبنان، نوريها في قلوبنا، فترحل معنا في صحارى العرب.
بكاء الأشجار في لبنان، طقسنا اليومي. مثله دموعنا على خد غابات، فقدناها مع أهلنا في الحروب.
يوحدنا البكاء في طقسه: شجر يبكي أحبته، أهله. وأهله يبكون فقد غاباتهم وأبنائهم، في الهزيع الأخير.
بكاء الأشجار، مثله، بكاء الأهل، حين يفتقدون، وحين يفقدون.
متى نستفيق على مآتمنا الجماعية. متى نستفيق على جنائزنا الجماعية. متى نمنع الموت عن أبنائنا. عن أهلنا. عن أشجارنا عن غاباتنا. متى نمنع الدفن الجماعي في قلوبنا، في أرضنا. متى يصحو فينا الضمير.
موت مؤجل، هو يومنا. عويل دائم يخرج من أعماقنا، ومن أعماق غاباتنا. إعذروني: نبكي معا كلما وقفنا على أطلالنا.